الاثنين، 20 مارس 2023

الشعراء من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية pdf

الشعراء من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية pdf

Please wait while your request is being verified...,Account Options

Webالشعراء من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية / حسين عطوان. Authors: عطوان، حسين أحمد، Subjects:: الشعر العربي العصر العباسي، aucsh. الشعر العربي العصر الأموي، aucsh. الشعراء العرب العصر Webالشعراء من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية (كتاب) للدارسين المحدثين كتب كثيرة في تاريخ الأدب العربي في العصرين الأموي والعباسي، وهي كتب أقاموها على أساس التقسيم السياسي للأدب العربي، مما Webأدرك بشار بني أُمَيَّةَ وبني العباس؛ فهو من مخضرمي شعراء الدولتين، ويقول صاحب الأغاني: «إنَّه شُهِرَ في العصرين، ومدح وهجا، وأخذ سَنِيَّ الجوائز.» Webالشعراء من مخضرمى الدولتين الاموية و العباسية: Author: حسين عطوان: Publisher: دار الجيل للنشر والطباعة والتوزيع: Length: pages: Export Citation: BiBTeX EndNote RefMan Webالسّلطان سليمان بن سليم خان المعروف بسليمان الأوّل هو أحد أكثر السّلاطين تأثيرًا في تاريخ الامبراطوريّة العثمانيّة، ولد في 6 تشرين الثاني وتسلّم الحكم في العام بعد وفاة أبيه سليم الأوّل () ... read more




استخدم الأمويون اللغة العربية في إدارة الدولة، فكتبوا بها سجلات الدولة، وقد كانت قبل ذلك تكتب بلغات أخرى مثل اللغة الفارسية، واللاتينية. أول من نقش على النقود باللغة العربية هو الخليفة عبدالملك بن مروان. اهتم الأمويون بالعمارة الإسلامية فأنشأوا المساجد مثل مسجد قبة الصخرة في فلسطين، والقصور مثل قصر عمرة في الأردن، كما بنوا المدن مثل مدينة القيروان في تونس. وقد تجلى فن العمارة الإسلامية في أشكال التوافذ وتزيين الجدران بالنقوش والآيات القرآنية، وفي مأذن المساجد ومحاريبها. واجه الأمويون في أواخر عهدهم صعوبات في إدارة شؤون الدولة؛ وذلك لعدة عوامل منها اتساع الدولة، وصعوبة الاتصال بين أجزائها، وتزايد المعارضة ضد الحكم الأموي، ما ادی إلى سقوطها عام هـ وقيام الدولة العباسية.


ينتسب العباسيون إلى جدهم العباس بن عبد المطلب عم الرسول ، واستمرت الدولة العباسية حوالي خمسة قرون، وقد اتخذوا من بغداد عاصمة لهم. من أبرز خلفاء الدولة العباسية هارون الرشيد، الذي أنشأ مكتبة بيت الحكمة. أسهم العباسيون في خدمة الحضارة الإسلامية بالعديد من المنجزات، أهمها:. وأُدركت عليه سرقات كثيرة جرَّه إليها جمعه لأشعار المتقدمين، وسعة روايته؛ فكان يسلُّ المعاني الحسان ويدخلها في شعره، ولكن خصومه بالغوا في تسريقه، فزعم دعبل أنَّ أبا تمام أغار على قصيدة لمُكنَّف بن أبي سُلمى من ولد زهير بن أبي سلمى فسرق أكثرها، وأدخله في قصيدته «كذا فليجلَّ الخطب»، وروى صاحب «الأغاني» أبياتًا منها جاء في أواخرها:. وهذان البيتان تجدهما في رائية أبي تمام مع بعض التغيير، على أنَّنا نشك في صحة ما زعم دعبل؛ لأنَّ الأبيات التي ذكرها بيِّنة التوليد لا تشبه أشعار المتقدمين، والأرجح أن دعبلًا نظمها ونحلها ابن أبي سلمى؛ بُغية إسقاط أبي تمام.


شغل أبو تمام الناس بشعره فانقسموا حزبين: حزبًا يفرط في التعصب له ويقدمه على كل سالف ومحدث، وحزبًا يفرط في التعصب عليه، ويتعمد الرديء من شعره فينشره ويطوي محاسنه. وغير عجيب أن يشتد الخلاف في هذا الشاعر، فقد حمل إلى الشعر أشياء غير مألوفة، فلم تتفق جميع الأذواق على استياغها والارتياح إليها؛ فإنَّه جعل الشعر صنعةً، وبَعُدَ به عن الطبع السمح؛ لإسرافه في طلب التجنيس والطباق والاستعارات. قال الآمدي: «حتى صار كثير مما أتى به من المعاني لا يعرف ولا يُعلم غرضه إلا مع الكد والفكر، وطول التأمل، ومنه ما لا يُعرف معناه إلا بالظن والحَدْس. وأفرط في اتخاذ الأدلة العقلية بعد اطِّلاعه على كتب يونان، فازداد شعره إبهامًا وتعقدًا، وأصبح لا يميل إليه إلا من آثر الصنعة والمعاني الغامضة التي تُستخرج بالغوص والفكرة، وكان لمختاراته التي جمع فيها أشعار العرب المتقدمين اليد الطولى في تضليعه من غريب اللفظ ووحشيِّه، فشُغف به وأفرط في استعماله، حتى تأبد أكثر شعره واخشوشن، وسمج وقعه في الآذان، فضاعت فيه معانيه الحسان، فما تعثُر على واحد منها إلا كما تعثُر على لؤلؤة وضَّاءة في أكوام من الفحم؛ فأعرض سواد الرواة عن حفظه، وكان ابن الأعرابي يقول: «إن كان هذا شعرًا فكلام العرب باطل.


وكان إذا قيل له: «لِمَ تقول ما لا يفهم؟» قال: «لم لا تفهمون ما يقال؟! وإسراف أبي تمام في الصنعة والغريب، وبخله بشعره، من الأسباب التي كان لها الأولية في الإكثار من رديئه، فاشتهر جيده لقلته، والجيد في شعره ما اجتمع فيه حسن اللفظ والمعنى، فجاء آية في الإبداع؛ لذلك كان البحتري يقول: «جيده أحسن من جيدي، ووسطي ورديئي خير من وسطه ورديئه. ولو وفق أبو تمام لتجميل ديباجته كما وفق في تصيُّد المعاني لما بلغ شأوه بالغ؛ لأنَّه أُوتي من جودة القريحة، وسعة الخيال، وتنبه الذهن، ما يجعل منه شاعرًا لا يُجارَى، ولو عمل بوصيته للبحتري إذ قال له: «وتقاضَ المعاني، واحذر المجهول منها، وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزريَّة، وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام.


وعلى الجملة فإنَّ أبا تمام شاعر عبقري يجاري أحيانًا الطبقة الأولى من الشعراء المولدين، ولكنه شاعر ضلَّ طريقه فما يلبث أن يتقهقر فتنحط منزلته عن منزلة المبرزين منهم، ولولا تعسفه وصنعته لما فضله مولد، وهو أول شاعر انكشفت له الحكمة اليونانية فاغترف من بحرها، ومهَّد السبيل من بعده للمتنبي وأضرابه، وأول شاعر عمد إلى التأليف فسخَّر له اختياره لأشعار المتقدمين من المعاني ما لم يسخَّر لسواه، ويمتاز شعره بطول النفس، وفخامة الابتداء، وبُعد مرامي التفكير، على اندفاع عاطفي. وله المكانة العالية في الرثاء ثم في المدح، ويُعدُّ من المجددين في عصره من حيث التزام البديع، ونظم الأدلة المنطقية، والآراء الفلسفية، وقد أغنى اللغة بمعانٍ لم تُعرف قبله، كما أغناها بأنواع الاستعارة والتجنيس والطباق. واتصل الشاعر بالرشيد وهو شاب لم ينبه ذكره بعد، وسبب اتصاله به أن بعض المغنين غنى في قوله: «لا تعجبي يا سلمَ من رجلٍ. يحدثنا الرواة أنَّ دعبلًا قصد مالك بن طَوْق أمير الجزيرة، ومدحه فلم يرضَ ثوابه؛ فخرج عنه غاضبًا، وهجاه فأفحش فيه القول، فطلبه مالك فهرب فأتى البصرة، وعليها إسحاق بن العباس بن محمد العباسي، وكان قد بلغه هجاء دعبل للنزارية تعصبًا للقحطانية فقبض عليه، ودعا بالنِّطْع والسيف ليضرب عنقه؛ فحلف بالأيمان المحرَّجة أنه لم يقلها، وأنَّ عدوًّا له قالها ونسبها إليه ليُغري بدمه، وجعل يتضرع إليه ويقبِّل الأرض ويبكي بين يديه؛ فرقَّ له وقال: «أما إذا أعفيتك من القتل فلا بدَّ من أن أشهِّرك.


فدعبل كبشار يكره الناس، ويحب التكسب، ويؤثر أن يطلبه بالهجاء بدلًا من المديح، وهو كبشار سيئ الظن في أبناء عصره، فعيوب الناس عنده أكثر من محاسنهم؛ غير أنَّه يختلف عن بشار في أنَّه صاحب عصبية عربية، ويختلف عنه أيضًا في أنَّه كان دونه أَنَفَة وكِبْرًا؛ فقد ضُرب بشار حتى مات ولم تذلَّ نفسه ولم يتضرع، وهُدد دعبل بالموت فبكى وتذلل، ثم ضرب فسلح وبلع سلحه. ولم يبرَّ أحدًا إلا أبناء علي، فقد كان صادق التشيع لهم، يرجو بهم الشفاعة في الآخرة، ولكن تشيعه لا يعني أنه كان حسن التدين، يحافظ على شعائر الإسلام؛ فدعبل لم يتحوَّب من القتل والسلب، وتمزيق الأعراض، والتخنث والفجور، وشرب الخمر، ولكنه كان أقل فجورًا وسكرًا من بشار.


وعلى الجملة فليس في أخلاق دعبل ما يستحق الحمد والثناء، فهو عصارة اللؤم المصفَّى. لم يُشهَر دعبل في الشعر إلا بعد أن اكتمل شبابه واتصل بالرشيد، فأجازه وحرَّضه على القول. وأمَّا الشعر الذي نظمه في صباه فإنَّ أستاذه مسلم بن الوليد لم يَرَ فيه خيرًا؛ فأمره بكتمه، فكتمه ولم يُظهره. ولكن دعبلًا عُمِّر طويلًا، ونظم شعرًا كثيرًا، فقد روى الجاحظ أنَّه سمعه يقول: «مكثت نحو ستين سنة ليس من يوم ذرَّ شارقه إلا وأنا أقول فيه شعرًا. ولعلَّ إقذاعه في هجو الخلفاء العباسيين كان السبب في ضياع شعره، وإخمال ذكره؛ لأنَّ الناس أهملوه بعد موته تهيبًا لبني العباس، فلم يَرْوُوا شعره ولم يَجْمَعُوه. لا نبتغي دراسة عامة لشعر دعبل وقد ضاع أكثره، على أنَّ ما بقي منه كافٍ لأن يظهر لنا الخصائص التي اشتهر بها هذا الشاعر، ألا وهي الهجاء المقذع والمتاجرة به، والعصبية القحطانية، والتشيع لأبناء علي.


كان دعبل يحب التكسب كغيره من شعراء العصر العباسي، وأوتي من خبث اللسان ولؤم الطباع ما جعله عند الناس بغيضًا مقيتًا؛ فابتعدوا عنه، ونفروا منه، وتمنوا هلاكه، حتى إن ممدوحيه كانوا يجيزونه قطعًا للسانه لا حبًّا له، فلم يسبغوا عليه وافر النعم، ولا أغنوه من فقر؛ فانقلب عليهم وهجاهم، وقدِّر له أن يعيش هاربًا خائفًا متواريًا لإفراطه في هجاء الخلفاء والأمراء، فلم يطمئن به مضجع ولا رحَّب به مصر؛ فاشتدت نقمته على الناس، وازداد كرهًا لهم، وأبت نفسه الخبيثة أن تأنس برؤية من يصنع المعروف معها، فتمنت هلاكه لئلا تُضطر إلى مجاملته والتودد إليه، ووافق هواها شتم الناس، فرأت أنَّ الهجاء المقذع آخَذُ بضَبْع الشاعر من المديح المضرع. وهذه النظرية سبق بشار إليها فاختطها دعبل من بعده، وكان مسلم بن الوليد يقول بها، ولكنه لم يؤيدها كما أيدها تلميذه؛ لأنَّه لم يكن مثله لئيمًا دنيئًا، ولم يكن يكره الناس.


واعتماد دعبل على الهجاء في التكسب جعله يهيئه قبل أن يجد المهجو، فإذا استحقه أحد أتحفه به، وذكر اسمه وشهره. وأكثر الذين هجاهم من أمراء ووزراء وقواد — كابن الزيات، ومالك بن طوق، والفضل بن مروان، وغيرهم — كانوا من ممدوحيه، فلم يرضه عطاؤهم فنقم عليهم. ولم يسلم من شره أنسباؤه وأصدقاؤه والمتشيعون مثله؛ فقد هجا آل طاهر بن الحسين الخزاعي مع شدة ميله إليهم، وكثرة افتخاره بهم، وقصد مصر؛ فمدح أميرها المطَّلِب بن عبد الله بن مالك — وهو قريب له — فأجازه، وولاه أسوان. وحدث أنَّ رجلًا من العلويين كان قد تحرك بطَنْجة، وأخذ يبث دعاته إلى مصر؛ فخافه المطَّلب؛ فوكل بالأبواب من يمنع الغرباء دخولها، فجاء دعبل فمُنع؛ فأغلظ للذي منعه، فقنَّعه هذا بالسوط وحبسه، ثم عرف المطَّلِب بالأمر فأطلقه وخلع عليه، فقال له: «لا أرضى أو تقتلَ الموكَّل بالباب.


وبلغ المطَّلِبَ هجاؤه إياه فعزله عن أسوان؛ فراح يفحش فيه القول ويوجع عرضه. وحسبك من ذلك شاهد على لؤم دعبل، وخبث لسانه، ودناءته في طلب الرزق، وغدره بأقرب الناس إليه. لا نرى بنا حاجة إلى الاستفاضة في أسباب العداء المستحكم بين العدنانية والقحطانية، فحسبك أن تعلم أنَّه أثر باقٍ من عصبية العرب في جاهليتهم، وتنافس قبائلهم من نزارية وحِمْيرية. وجاء الإسلام فزيدت قريش شرفًا بالنبوة، ثم استقلَّت بالخلافة، فدلَّت قبائل مَعَدٍّ على قبائل اليمن، فاشتدَّت الخصومة بينهم وعظم التنافس، فكانت شعراء نزار تهجو اليمانية، وشعراء اليمن تهجو النزارية ولا تعفُّ عن قريش.


وكأنَّ الشاعر خشي شرَّ هذا البيت، فكان إذا سئل عنه تبرَّأ منه وقال: إنَّ خصمه أبا سعد المخزومي دسَّه عليه في نقيضته. وأبو سعد هذا شاعر من موالي قريش اسمه عيسى بن خالد بن الوليد، انبرى لدعبل يهاجيه وينقض أقواله بعد أن ردَّ على الكميت وهجا النزارية؛ فاستطال عليه دعبل، فخاف بنو مخزوم أن يعمَّهم الهجاء؛ فنفوا أبا سعد عن نسبهم، وكتبوا بذلك صكًّا، فقال دعبل يهجوه:. ولحم الهجاء بينهما، هجاء فاحش فاجر، وكان شعر دعبل أَسْيَرَ من شعر أبي سعد؛ لسهولته وخفته، فسار على أفواه الصبيان وعابري السبيل، وكان أبو سعد يتضوَّر منه ويقول: «ما أجتاز بموضع إلا سمعته من سفلة يهدرون به. إذا شئت أن تتبين مبلغ تعصب دعبل لأبناء علي، فعليك بشعره الذي هجا به الخلفاء العباسيين، فهو أصدق شاهد على تشيع هذا الشاعر، وكرهه لبني العباس الذين استأثروا بالملك دون أبناء عمهم من هاشم.


وكان الرشيد أول خليفة سلط دعبل لسانه عليه، ولكن بعد موته، ولم يهجُه في حياته لأسباب، منها: أنَّ الرشيد كان مرهوب الجانب، ومنها: أنَّ دعبلًا كان محظوظًا عنده؛ فأشفق من أن تزول عنه هذه النعمة؛ فكظم تعصبه في صدره، ورضي بالصمت على أمل أن تتبدل الأحوال بتبدل الأزمان، ومات الرشيد واستخلف الأمين من بعده وشاعرنا لا ينبس ببنت شفة، ثم وقعت الفتنة بين الأخوين الأمين والمأمون، فانتصر الفرس للمأمون لأنَّ أمه فارسية، وكان المأمون ذا دهاء، فرأى من الحكمة أن يتودد إلى العلويين استكفافًا لسخطهم، واسترضاءً للفرس أنصاره وأشياعهم، فلما تم له الأمر بعد مقتل أخيه عهد في الخلافة من بعده إلى علي بن موسى الرضا — من ولد علي بن أبي طالب — فاغتبطت الشيعة وارتضت، ولكن العباسيين سخطوا فبايعوا إبراهيم بن المهدي في بغداد، فخشي المأمون أن يفلت الأمر من يده بخروج العباسيين عليه، وميلهم إلى عمه إبراهيم؛ فودَّ لو يتخلص من هذه الورطة ليصفو له الجو، فلم يلبث أن تحققت أمنيته فتوفي علي الرضا فجأة، وزعموا أنَّه أكثر من أكل العنب فمات، وقال آخرون: بل دس المأمون له السم فقضى عليه.


وكتب المأمون إلى أهل بغداد يعلمهم بموته؛ فخلعوا إبراهيم ودعوا للمأمون بالخلافة. وأثار موت علي الرضا بهذا الشكل ظنون العلويين؛ فهاج بعصبيتهم وأيقظ النقمة في صدورهم، غير أنَّ المأمون استطاع أن يخضد شوكتهم بدهائه؛ فقربهم إليه، وشغلهم بالخطط العالية، ولم يحجم عن اغتيال من يخشى شره منهم، فِعْله بوزيره الفضل بن سهل، وبقائده طاهر بن الحسين. وكان دعبل في جملة الناقمين، وساءه أن يغدر المأمون بعلي الرضا، ثم يدفنه عند قبر أبيه الرشيد في طوس؛ فهجا الرشيد والعباسيين، وبكى على العلويين ضحايا أبناء عمهم، وفي ذلك يقول:. وبوسعنا أن نتبين هنا خطأ الرواية التي أثبتها أبو الفرج في أغانيه، وتناقلتها كتب الأدب من بعده، وهي قولهم: «ما بلغ دعبلًا أنَّ الرشيد مات حتى كافأه على ما فعله من العطاء السني، والغنى بعد الفقر، والرفعة بعد الخمول، بأقبح مكافأة، وقال فيه من قصيدة مدح بها أهل البيت — عليهم السلام — وهجا الرشيد. فيتضح — مما تقدم — أنَّ الشاعر بقي نحو عشر سنوات بعد الرشيد لم يقل هُجرًا في العباسيين، وانقضت خلافة الأمين دون أن يهجو أحدًا منهم، حتى مات علي الرضا؛ فاستيقظت عصبيته فهجا الرشيد، ثم هجا المأمون، وإبراهيم بن المهدي، والمعتصم، والواثق، والمتوكل.


وكان المأمون أرحبهم صدرًا في استماع هجائه؛ ذلك أنَّه كان يزن الأمور بمعيار فطنته، فلم يجد بأسًا على الخلافة من هجاء دعبل فلم يعبأ به، ولم يشأ أن يسيء إلى الشيعة بقتل محازبهم، ولا أن يرزأ بني خزاعة بشاعرهم، وهم أنصاره في ثورته على أخيه. وسأله أبو سعد المخزومي أن يأذن له بقتله فأبى وقال: «هذا رجل فخر علينا فافخر عليه كما فخر علينا، فأما قتله بلا حجة فلا. ولطالما حاول أن يقربه ويصطنعه، فكان يأخذ عطاياه ثم يعود إلى هجائه، والمأمون يتحلم عنه وقد يجيزه إذا سمع منه هجاءً في عمه إبراهيم؛ لأنَّ إبراهيم طمع في الخلافة وأرادها لنفسه دونه، فكان المأمون يتعمد نكايته والتشفي منه، قيل إنَّه لما سمع قول دعبل فيه:. ضحك وقال: «قد صفحت عن كل ما هجانا به؛ إذ قرن إبراهيم بمخارق في الخلافة، وولَّاه عهده. قال البحتري: «دعبل بن علي أشعر عندي من مُسلم بن الوليد؛ لأنَّ كلام دعبل أدخل في كلام العرب من كلام مسلم، ومذهبه أشبه بمذهبهم.


والبحتري ينظر في ذلك إلى طبع دعبل وصناعة أستاذه، فمذهب مسلم في الشعر مختلف؛ فحينًا يسهل فيسيل عذوبة وطبعًا، وحينًا يحزُن فيُغرب، ويتكلف البديع فيُفسد شعره، ويبعد به عن مذاهب الأعراب. وغريب أن دعبلًا لم يتأثر أستاذَه إلا من الناحية السهلة المطبوعة، فلغتهما فيها أشبه من الماء بالماء، وأما الناحية الثانية فقلما سلك دعبل إليها، ولا نعرف له فيها غير قصيدة مدح بها الفضل بن مروان وزير المعتصم، والتزم في جميع قوافيها لفظة الفضل فجاءت غير مألوفة في عصرها، وإن يكن التكلف أخذ يفشو فيه. ودعبل نفسه استغربها فقال فيها:. ولا غرو أن يبتعد دعبل عن التصنع، ويأنس بكلام العرب الخُلَّص؛ فهو عربي النبعة لا أعجميها كأُستاذه، بدويُّ النزعة لا حضريها، وقضى حياته هاربًا من وجه السلطان، مستخفيًا في الجبال والقفار، فلم تملك نفسه زخارف الحضارة ومباهجها؛ فظلَّ شعره أقرب إلى الطبع من شعر مسلم، وأدخل منه في كلام العرب الصرحاء.


ويمتاز شعره في رشاقته، وحسن انسجامه، وطلاوته، ووقع أنغامه، فهو لطيف على غير ضعف، قوي على غير خشونة، ولولا إمعانه في هجاء الخلفاء وإسرافه في سفساف القول، لكان من أَسْيَر الشعراء شعرًا؛ لسهولة ألفاظه ووضوح معانيه، ولكنه أفسد هذا الشعر بالفحش والإقذاع، وشتم الملوك والأمراء؛ فأهمله الرواة بعد موته وأخملوا ذكره. على أنَّه كان في حياته من أعظم الشعراء خطرًا، وأخوفهم جانبًا؛ فكان الناس يخشون شره، ويتحامون إغضابه، ويقطعون لسانه بالصلات استكفافًا لبلائه. روى أبو الفرج أنَّ ديكًا لدعبل طار من داره إلى دار جارٍ له فاصطاده جاره وطَعِمَه، فعرف دعبل فهجاه، فذاع الهجاء؛ فخاف الجار، فلم يدع ديكًا ولا دجاجة قدر عليه إلا اشتراه، وبعث به إلى دعبل؛ ليسكت عنه. وقيل لابن الكلبي: «لو أخبرت الناس أنَّ دعبلًا ليس من خزاعة. والله لو كان من غيرها لرغبَتْ فيه حتى تدَّعيه. دعبل — والله يا أخي — خزاعة كلها. فهذه الروايات — على علاتها — تشهد لدعبل بما كان له من مكانة في عصره؛ فخبث لسانه، وعصبيته القحطانية، وتشيعه لأهل البيت جعل منه هجَّاء مسافهًا، وشاعرًا قوميًّا، ومحاميًا حزبيًّا؛ فمنزلته إذن قائمة على شعره الهجائي، ولا سيما السياسي منه.


وهو يشبه بشارًا بإقذاعه وفحشه، وسلاطته على الأعراض، ولكنه يفوقه خطرًا لنسبته في خزاعة، وتشيعه للعلويين. أدباء العرب في الأعصر العباسية. وأصبحوا يتحامون أو يتحامى أكثرهم ما كان يستهدف إليه الأقدمون من إِشْبَاعٍ ٢ وخَرْمٍ ٣ وإِقْوَاءٍ ٤ وإِكْفَاءٍ، ٥ وغير ذلك من عيوب الوزن والقافية. وَفِيهَا ضُرُوبُ الْقَارِ وَالشَّبِّ وَالنَّهْيِ. وَأَصْنَافُ كِبْرِيتٍ مُطَاوِلَةُ الْوَقْدِ ٧. وَمِنْ تُوتيَاءِ فِي مَعَادِنِهِ هِنْدِي ٨. ولولا ملاحيات الشُّعُوبِيَّة والعرب، وبقية نضال بين العَبَّاسِيِّين والطَّالِبِيِّين، ٩ لاضمحلَّ الشعر السياسي، ولكنه على ضعف خطره لم يَخْلُ من شر وإقذاع، وخصوصًا ما كان من الشعراء الموالي بعد أن قويت شوكة الشعوبيين، فإنَّهم أخذوا يعيرون العرب وينشرون مثالبهم، وفي شعر أبي نُوَاس أبلغ شاهد على ذلك، ثم ما كان من شعراء الشيعة، فإنَّ بعضهم أسرف في هجاء بني العباس، وأفحش القول في خلفائهم؛ على حين أنَّ شعراء العباسيين كانوا يتورعون من هجاء العَلَوِيِّين؛ ذلك بأنَّهم أبناء بنت الرسول.


وإليك مطلع قصيدة أنشدها محمد بن عبد الملك في حضرة المأمون، يحرضه على قتل إبراهيم بن المهدي ١٠ حين ظفر به؛ فتجد الفلسفة اليونانية ظاهرة كل الظهور:. أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّيْءَ لِلشَّيْءِ عِلَّةٌ. على أنَّ أجمل شيء كان الشعراء يتمتعون به هو الثروة، فإنَّ الخلفاء والأمراء بسطوا لهم الأكف، وأعطوهم بغير حساب، حتى لقد تبلغ جائزة الشاعر مائة ألف درهم؛ ١١ وربما وهبوه الضياع والجواري والغلمان، وما إلى ذلك من متاع. وليس في هذه الهبات السنية ما يحملنا على الشك في صحتها؛ لأنَّ خزائن المملكة كانت تغص بأموال الفيء والخراج، ويخبرنا ابن خَلْدُونَ في «تاريخه» أنَّ جباية الخراج السنوية بلغت عهد المأمون ٣٩٠٨٥٥٠٠٠ درهم؛ ١٢ لذلك استطاع الشعراء أن يعيشوا ناعمين مترفين، وجمع بعضهم أموالًا طائلة، ذكروا أنَّ سلمًا الخاسر ١٣ ترك ثروة مقدارها خمسون ألف دينار، ومليون وخمسمائة ألف درهم ما عدا الضياع؛ فغير عجيب أن يكثر عددهم ما دام الشعر يدر لهم هذا الدر الغزير! وكان يُكَنَّى أبا معاذ ١٧ ويُلَقَّبُ بالمرعَّث؛ ١٨ لأنَّه كان في أذنه وهو صغير رِعاث شأن غلمان الفُرْسِ، وهي عادة قديمة عندهم. بشار في صباه نشأ بشار في بني عقيل نشأة عربية خالصة، فاستوى لسانه على الكلام الفصيح، لا تشوبه لكنة ولا طُمْطُمانية، ولما أيفع أبدى فسلم من الخطأ.


وكان بُرْدٌ — والده — طيَّانًا، وولد بشار مكفوفًا، فكان برد يقول: «ما رأيت مولودًا أعظم بركة منه، ولقد ولد لي وما عندي درهم، فما حالَ الحَوْلُ ١٩ حتى جمعت مائتي درهم. بشار في العصر الأموي أدرك بشار بني أُمَيَّةَ وبني العباس؛ فهو من مخضرمي شعراء الدولتين، ويقول صاحب الأغاني: «إنَّه شُهِرَ في العصرين، ومدح وهجا، وأخذ سَنِيَّ الجوائز. ولعل أول رحلة تجَشَّمَها كانت إلى حَرَّانَ، فوفد إلى سليمان بن هشام بن عبد الملك فمدحه بقصيدة بائية، وكان سليمان بخيلًا فلم يعطه شيئًا، وقيل: بل أعطاه خمسة آلاف درهم؛ فاستقلَّها وردَّها عليه، وخرج من عنده ساخطًا وهجاه، وربما كانت له وفادة على مروان بن محمد فلم يعطه، أو أنَّ مروان وعده بشيء وأخلف وعده؛ فهجاه بأبيات لم يصل إلينا منها غير بيت واحد يقول فيه: لِمَرْوَانٍ مَوَاعِدُ كَاذِبَاتٌ. كَمَا بَرَقَ الْحَيَاءُ وَمَا اسْتَهَلَّا ٢٠. وكان إلى ذلك شديد الاتصال برجال العلم والدين، وكانت البصرة حافلة بهم في ذلك العهد، فصاحَبَ واصل بن عطاء شيخ المعتزلة، وصالح بن عبد القُدُّوس، وعمرو بن عُبَيْد، وغيرهم من أصحاب الكلام، ولكن واصلًا لم يلبث أن جافاه وهَتَفَ به ٢١ لما بلغه من إلحاده، وحرَّض الناس على قتله، فهجاه بقوله:.


ما لي أشايع غزَّالًا له عنقٌ. كنِقْنِق الدَّوِّ إن ولى وإن مثلا ٢٢. أتُكْفِرُون رجالًا كفَّروا رجلا؟! بشار في العصر العباسي كان بشار مبعدًا عن البصرة لما انتقلت الخلافة إلى بني العباس، ومات السفاح ولم يتصل به شاعرنا، ولا تمكن من العودة إلى البصرة، وما كاد يُستخلف أبو جعفر المنصور حتى هبَّ الحزب العلوي من رقدته يطالب بالإمامة بعد أن رضي بالصمت على عهد السفاح؛ لأنَّ السفاح قرب الطالبيين وأنعم عليهم وأحسن مصانعتهم، وأمَّا أبو جعفر فكان بخيلًا لا يدر دره، وعاتيًا ظلَّامًا يضطهدهم ويسيء معاملتهم، فخرج عليه الأخوان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي، فثار محمد في المدينة فبايعه أهلها، وأفتى بصحة البيعة الإمام مالك بن أنس، وثار إبراهيم بالبصرة، وكان بشار منفيًّا عنها، فأرسل إليه من الكوفة بقصيدته الميمية الشهيرة يحرضه بها على المنصور، ويمدحه ويشير عليه، ولكن الأخوين لم يوفقا في ثورتهما، وظفر بهما المنصور وقتلهما.


وأبى الله أن تصل قصيدة الشاعر الضرير إلى إبراهيم، أو أنَّها وصلت إليه وضاعت فلم يروها راوية؛ لأنَّ المنصور لم يطلع عليها إلا بعد أن قلبها بشار وجعل التحريض فيها على أبي مسلم الخراساني، والمدح والنصح للمنصور، ولو رويت لأبي جعفر على حالها الأول لما سلمت عنق بشار، ولعل هذه القصيدة بعد تغييرها كانت السبب في اتصال الشاعر بالمنصور والحظوة عنده، على أنَّنا لا نعتقد أنه عاش منعمًا في كنفه، أو أنه أكثر من مدحه، وقد عرف هذا الخليفة ببخله وجفاف يده حتى لقب بالدوانيقي، ٢٥ لإلحافه في محاسبة العمال والصناع على الحبة والدانِق. بشار والمهدي ولما ولي المهدي الخلافة اتصل به بشار اتصالًا وثيقًا، وأخذ يفد إليه ويأخذ جوائزه، وكان شعره قد طار وتناقله الناس، وكان المهدي شديد الحب للنساء غيورًا عليهن، فبلغته أبيات لبشار فيها مجون وتعهر، فلما قدم عليه استنشده الشعر فأنشده إياه، فغضب الخليفة وقال: «ويلك أتحض الناس على الفجور، وتقذف المحصنات المخبآت!


وحاول أن يتقرب من وزيره يعقوب بن داود فلم يحفل به ولا أذن له ولا أعطاه؛ فرحل إلى البصرة غاضبًا وأخذ يهجو المهدي ووزيره ويوجع فيهما، فكان طول لسانه سببًا في هلاكه؛ لأنَّ الخليفة سخط عليه وأراد أذيته، فاتفق أن رآه مرة في البصرة يؤذن وهو سكران في غير وقت صلاة؛ فنسبه إلى الزندقة، وأمر بضربه فضرب سبعين سوطًا حتى مات، ولما نعي إلى أهل البصرة تباشروا وتصدقوا لما كانوا منوا به من لسانه، وجاء في «معاهد التنصيص» أنَّه دفن مع حماد عجرد الشاعر الخليع، فكأن الأقدار شاءت أن تجمع هذين الشاعرين في قبر واحد بعد أن تنافرا شطرًا من حياتهما، وتقارضا أقذع الهجاء. صفاته وأخلاقه قال الأصمعي: «كان بشار ضخمًا، عظيم الخلق والوجه، مجدورًا، طويلًا، جاحظ المقلتين، قد تغشاهما لحم أحمر؛ فكان أقبح الناس عمى، وأفظعه منظرًا، وكان إذا أراد أن ينشد صفق بيديه، وتنحنح وبصق عن يمينه وشماله، وكان أشد الناس تبرمًا بالناس، وكان يقول: «الحمد لله الذي ذهب ببصري لئلا أرى من أبغض».


وكان متكبرًا كثير الاعتداد بنفسه، لا يرى فوقه شاعرًا ولا عالمًا، وتكبره جعله شديد الافتخار بنسبه حتى لا يجد له معادلًا غير قريش وكسرى، وجعله يشبب بجمال صورته على ما فيها من دمامة وقبح فيقول: وإني لأغني مقام الفتى. ويرد على أبي دُلامة الشاعر عندما عيره القبح، فيقول في وصف نفسه: «إني لطويل القامة، عظيم الهامة، تام الألواح، أسجح الخدين. تلونه في نسبه كان بشار شعوبيًّا متعصبًا للفرس، ينكر الولاء ويتبرأ منه، ويحض الموالي على رفضه، ولكنه كان مع ذلك يفتخر ببني عُقيل وبقيس عيلان، ويدافع عنهم ويهجو أعداءهم، فإذا انتسب إلى الفرس جعل أسرته في مستوى أسرة كسرى: ورب ذي تاج كريم الجد. إنني من بني عقيل بن كعب. ألا أيها السائلي جاهدًا. علومه كان بشار عالمًا فقيهًا متكلمًا، ولولا زندقته لعد من كبار أئمة الدين، وعرف بطول باعه في معرفة الغريب والوقوف على أساليب العرب الصرحاء، وبنقد الشعر وتمييز صحيحه من منحوله، وصدق ظنه في تقدير جوائزه؛ فقد كان يزنه بمعيار تأثيره في نفس الممدوح، وموقعه من سياسته وهواه.


آثاره قيل: إنَّ أكثر الناس شعرًا في الجاهلية والإسلام ثلاثة: بشار وأبو العتاهية والسيد الحميري، وتحدث بشار عن نفسه فقال: «إنَّ لي اثني عشر ألف قصيدة. الهجاء لم يكن في أخلاق بشار وصفاته ما يحبب الناس إليه، فيصون لسانه عن ثلبهم وتشهيرهم، ولا بد لمثله أن يكون بغيضًا مقيتًا، وأن يكثر أعداؤه فيتناولوه بألسنتهم، وأن يقوم فيهم شعراء يقارضونه الهجاء. وهو في هجوه صادق لا يتكلفه تكلفًا وإن تاجر به وتكسب؛ فعاطفة البغض مسيطرة عليه في كل حال، وقد سئل: «إنك لكثير الهجاء! على أنَّ حمادًا لم يستطع أن يسقط بشارًا بشعره، ولكنه هتكه بالزندقة. وأمَّا بشار فقد أسقط حمادًا ببلاغته وفضحه، ولم يقصر في رميه بالثنوية ٣٣ والكفر، قيل: أجمع علماء البصرة أنَّه ليس في هجاء حماد عجرد لبشار إلا أربعون بيتًا معدودة، ولبشار فيه من الهجاء أكثر من ألف بيت، ولكن لم يصل إلينا من تهاجيهما إلا شيء قليل لا يعتد به.


وهذا الهجاء على نزارته يبين لنا شيئًا من أسلوب الشاعر في هذا الفن، وما فيه من كبرياء ومضاضة وإيلام؛ فبشار إذا هجا رمى خصمه بالكفر والزندقة؛ مع أنَّه كان في طليعة الزناديق، فقد كفر حماد عجرد والمهدي وواصل بن عطاء وسواهم، وهو إلى ذلك لا يعف عن الأعراض بل يشتمها شتمًا قبيحًا، وربما استخدم شعره للتكسب الأدبي؛ فإن سيبويه عاب قوله في وصف السفينة: «تلاعب نينان البحار»، وأنكر جمع نون على نينان؛ ٣٤ فغضب بشار وهجا سيبويه، فتوقاه سيبويه بعد ذلك، وصار إذا سئل عن شيء فأجاب عنه ووجد له شاهدًا من شعر بشار احتجَّ به استكفافًا لشره. وكذلك الأخفش الأوسط ٣٥ عاب عليه جمع النون على نينان، واستعمال الوجلى والغزلى موضع الوجل والغزل؛ فهدده بالهجاء فجزع وصار يحتج بشعره في كتبه.


المدح كان بشار يتخذ المدح آلة للتكسب، لا شغفًا بمناقب الممدوح أو كلفًا به؛ فلم تكن مناقب الناس — مهما حسنت — لتملك عاطفته أو لتهز فؤاده، وهو يبغض الناس ويرى نفسه فوقهم جميعًا؛ لذلك لم يخلص في مدحه لأحد، وإنما كان يترقب غيث ممدوحه، فإذا أخلف أو أبطأ استمطره بالهجاء، فقد مدح سليمان بن هشام فلما استقلَّ عطاءه هجاه، ومدح المهدي فلما أعرض عنه لم يحجم عن هجوه والقول فيه: «كذب أملي لأنني كذبت في قولي. الغزل لم يعرف بشار للحب معنًى صحيحًا، ولا اختلج فؤاده لمرأى الجمال وهو لا يراه، وإنما كان في نفسه حس دقيق ضاعف العمى قوته، فإذا به شديد الولوع باللذة، يسعى إليها ويتطلبها بإلحاف، وكائن ٣٦ ثارت نفسه لحديث سمعه، أو كف لمسها، أو طيب استنشقه؛ فهو فاسق القلب، شهواني الحب، لا يفهم منه غير اللذة الحيوانية، ولا غرو أن يخرج شعره صورة لنفسه الفاجرة، فيظهر حافلًا بالفحش والتعهر. وقد أجاد بشار الغزل كما أجاد غيره من الفنون، وكأنه شعر بعجزه عن تصبي النساء بجماله وحسن روائه، فاتخذ من براعة فنه وسيلة لإغرائهن، فنظم فيهن الغزل الرقيق الناعم؛ فأقبلن عليه يزرنه في منزله، ويجالسنه في البردان أو الرقيق؛ ٣٧ ليستمعن إلى شعره، حتى لم تبقَ غزلة في البصرة إلا كانت له راوية.


في حلتي جسم فتًى ناحل. يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة. الخمر لم يبق لنا من خمريات بشار إلا نزر يسير ليس فيه غناء، ولا ريب أنَّ الشاعر وصف الخمر في أوقات لهوه، وأكثر من وصفها، ولكن لم يشهر بها كما شهر أبو نواس بعده، ولا تفنن في معانيها تفننه، وإن ما وصل إلينا من شعره الخمري يكاد لا يخرج عن الدائرة التي طوَّف فيها الأعشى ثم الأخطل، فهو يتوكأ عليهما في النعوت التي نعتا بها الخمرة، والأوصاف التي وصفا بها السكران. الفخر والحماسة عرفنا أنَّ ولاء بشار في بني عقيل، وعقيل من عامر، وعامر من قيس عيلان بن مضر، فكان بشار يتعصب لبني عقيل خاصة، وللقيسية أو المضرية عامة، وكان يفتخر بهم كما يفتخر بالفرس أجداده الأول، وقد استحق لقب شاعر قيس في دفاعه عنهم ومهاجاته خصومهم. الرثاء لم يصل إلينا من رثاء بشار إلا شيء قليل، ونحسب أنَّ الشاعر لم يحفل بهذا الفن لقلة الانتفاع به؛ فهو إنما كان يُعنى بإرضاء ممدوحه حيًّا ليكتسب منه، ولم يكن يهمه أن يمدحه ميتًا إن لم يتوقع خيرًا من بعد ذلك. وكأن بغضه للناس أمات فيه عاطفة الحزن واللوعة، فما كان يجزع على فقيد حتى يرثيه رثاء صادقًا؛ فنفس بشار أصلب من أن ترثي لمصائب الناس، وقد رثى عمر بن حفص العتكي ٣٩ وكان محسنًا إليه، فوفق بعض التوفيق، وأصيب بولده فجزع لموته، ولكن نفسه أبت عليه التفجع والإرنان، فلم يستطع رثاءه بأحسن مما رثى به العتكي.


كيف يصفو لي النعيم وحيدًا. آراؤه وعقائده كانت لبشار آراء وعقائد أورثه إياها أصله الفارسي، وعصره الذي تفشت به المذاهب والبدع، بعد أن خرج العرب من جمودهم العقلي، وأخلدوا إلى التأمل والتفكير. ولعل الحيرة أظهر شيء في آراء بشار؛ فتراه على شعوبيته وكرهه للعرب لا يستنكف من الافتخار بمضريته، وعلى تفقهه بالدين وتضلعه من علم الكلام لا يصلي ولا يأبه للفروض والأنفال، وقد يدين بالجبرية ٤١ ثم لا يلبث أن ينقضها، فيقر بالبعث والحساب. وربما حنَّ إلى أصله المجوسي، ٤٢ ففضل النار على جميع العناصر، وفضَّل إبليس على آدم وبنيه:. الأرض مظلمة والنار مشرقة.


حشوه وتخليطه وبشار على جلالته لم يخل شعره من الحشو والتخليط، فروي له شيء غث لا يليق بشاعريته، وهذا ما جعل إسحاق الموصلي لا يعتد به، ويفضل عليه مروان بن أبي حفصة، وكان يقول فيه: «هو كثير التخليط في شعره، وأشعاره مختلفة لا يشبه بعضها بعضًا، أليس هو القائل: إنما عظم سليمى حبتي. ربابة ربة البيت. سيدي خذ بي أتانًا. كأنَّ مثار النقع فوق رءوسنا. وكان يكنى في أول أمره أبا علي، ثم تكنى بأبي نُوَاس ٥٣ لذؤابتين ٥٤ كانتا تنوسان على عاتقه وهو صبي، وقيل إنَّ أستاذه خلفًا الأحمر كان له ولاء في اليمن، فقال له يومًا: «أنت من اليمن فَتَكَنَّ باسم ملك من ملوكهم الأذواء. أبو نواس في صباه ولكن نفسه ما كانت لترضى هذه الصنعة، وبها نزوع شديد إلى الأدب؛ فكان لا يفتر عن مخالطة أهل المسجد والأدباء المُجَّان، وأخذ يتردد على باب أبي عمرو بن العلاء، وكان الرواة والشعراء يجتمعون عنده؛ فاتصل بهم وهو في العقد الأول من عمره، فاكتسب منهم أدبًا وعلمًا، ولكنهم أضروا بأخلاقه، فتهتك صبيًّا.


في مصر انتجع الشاعر مصر صفر اليدين متألمًا من كساد سوقه، وفي ذلك يقول: إني لآمل يا خصيب على. اتصاله بالأمين عرف أبو نواس أولاد الخلفاء منذ قدومه بغداد وهو شاب، فنادم أولًا ولد المهدي ولازمهم، فلم يلق مع أحد من الناس غيرهم، ثم نادم القاسم بن الرشيد، ولكنه لم يلبث أن فارقه وتقرب من أخيه الأمين، وكان يومئذ صبيًّا يدرس النحو واللغة على الكسائي، وزاده اتصالًا بولي العهد أن الرشيد أمر الكسائي أن يحضر أبا نواس لينشد الأمين الشعر النادر ويعلمه الغريب، فلزمه شاعرنا ولم يفارقه، وراقت الأمين صحبة أبي نواس؛ فاتخذه نديمًا، وشاطره اللهو والمجون، فانحطت أخلاقه في صباه، وكان انغماسه في العبث والفسوق من الأسباب التي أضاعت ملكه. وألحف عليه بالتشديد يوم اعصوصب الشر بينه وبين أخيه المأمون، وكان ذو الرئاستين ٥٧ في خراسان يخطب بمساوئ الأمين، وقد أعد رجلًا يحفظ شعر أبي نواس، فإذا انعقد المجلس قام فذكر الأمين وقال: «ومن جلسائه رجل ماجن، كافر مستهزئ، متهكم يقول كذا وكذا» وينشد من قبائح شعره، ويذكر أهل العراق فيقول: «أهل فسق وفجور، وخمور وماخور»، ويلعنهم من يحضر من أهل خراسان. أمَّا الأمين فلست أرجو دفعه.


توبته وموته ولما قتل الأمين وظفر المأمون بالخلافة أصاب أبا نواس شيء من الجزع والقنوط، وتنكر له الدهر فتبرم الحياة وسئم ملاذها وغرورها، وأبى أن يتقرب من المأمون أو يمدحه، وكان المأمون قد جعل مقر الخلافة في خراسان، ولبث هناك نحوًا من ست سنوات حتى استتب له الأمر في بغداد فانتقل إليها. صفاته وأخلاقه وصفه ابن منظور فقال: «كان حسن الوجه، رقيق اللون، حلو الشمائل، ٥٨ ناعم الجسم، عظيم الرأس، شعره منسدل على وجهه وقفاه دائمًا، وكان ألثغ بالراء يجعلها غينًا، وكان نحيفًا وفي حلقه بحة لا تفارقه. واشرب وجد بالذي تحوي يداك لها.


لا تذخر اليوم شيئًا خوف فقر غد ٥٩. عليك باليأس من الناس. تلونه في نسبه سأله الخصيب في مصر عن نسبه فأجاب: «أغناني أدبي عن نسبي. أساتذته وعلومه رغب أبو نواس في العلم والأدب منذ صباه، فقرأ القرآن على يعقوب الحضرمي حتى حذقه، فقال له يعقوب: «اذهب فأنت أقرأ أهل البصرة. قال إسماعيل بن نوبخت: «ما رأيت أوسع علمًا من أبي نواس ولا أحفظ منه مع قلة كتبه، ولقد فتشنا منزله بعد موته فما وجدنا له إلا قمطرًا ٦١ فيه كتاب مشتمل على نحو وغريب لا غير. نظمه الشعر ظهرت النجابة على أبي نواس وهو صغير السن طري العود، لم يطر شاربه بعد، فنظم الشعر، وعرف بفصاحة اللسان، وأشهر شعره في صباه قوله: حامل الهوى تعب.


وقيل له: «كيف عملك حين تريد أن تصنع الشعر؟» قال: «أشرب حتى إذا كنت أطيب ما أكون نفسًا بين الصاحي والسكران صنعت الشعر، وقد داخلني النشاط، وهزتني الأريحية. وقال أيضًا: «لا أكاد أقول شعرًا جيدًا حتى تكون نفسي طيبة، وأكون في بستان مونق، ٦٣ وعلى حال ارتضيتها من صلة أوصل بها أو وعد بصلة، وقد قلت وأنا على غير هذه الحال أشعارًا لا أرضاها. آثاره ديوان شعر مختلف لاختلاف جامعيه؛ فإنَّه عني بجمعه رهط من الأدباء منهم: أبو بكر الصولي، وعلي بن حمزة الأصبهاني، وطبع غير مرة في فينا ومصر وبيروت، وفي صدر الطبعة المصرية فصل لجامعه الأصبهاني في منزلة شعر أبي نواس ونقده، وهذه المجموعة تتضمن أكثر من ثلاثة عشر ألف بيت، رتبت على اثني عشر بابًا؛ فالأول: في نقائضه مع الشعراء وأخباره معهم ومع القيان، والثاني: في المديح، والثالث: في المراثي، والرابع: في العتاب، والخامس: في الهجاء، والسادس: في الزهد، والسابع: في الطرد، والثامن: في الخمر، والتاسع: في ما جاء بين الخمر والمجون، والعاشر: في غزل المؤنث، والحادي عشر: في غزل المذكر، والثاني عشر: في المجون.


وقد أهمل الناشر ٦٤ الباب الأخير فلم يثبته في الطبعة؛ لأنَّه رأى فيه ما يصم الآداب، وحسنًا فعل، ولكننا لا ندري بأي عين نظر إلى الباب التاسع فإن فيه من التعهر ما لا يقل عما ورد في الباب الثاني عشر. الخمر والمجون إذا أردت أن تغوص في أعماق نفس أبي نواس، وتتبين حقيقته فما تستطيع ذلك في شعره الجدي، وإنما تستطيعه في عبثه ولهوه، في خمرياته ومجونه؛ فهي مرآة صافية تنعكس عليها ذاتية الشاعر الماجن. وإذا وصف الخمرة صوَّرها أحسن الصور، وأحاطها بألطف التشابيه والاستعارات، ووصف معها الكئوس والنديم والساقي والخمَّار ومجلس لهوه، وقص أخباره الفاحشة لا متكتمًا ولا مستحيًا؛ فهو صريح يؤثر المجاهرة، ويكره التستر، ويود لو يستوعب اللذة من جميع نواحيها، لئلا يفوته طرف منها، فتسمعه يقول: ألا فاسقني خمرًا وقل لي هي الخمر.


فعيش الفتى في سكرة بعد سكرة. فبعت قميصًا سابريًّا وجبة. ولكنني أبكي على الراح أنَّها. فاطبخ الراح بشمس. وما ينتهي من التشبيب بها إلا ليصف مجالس لهوه، ويتحدث بما يأتي من الأعمال الشائنة، فيشتد حينئذ مجونه، ويكثر فحشه واستهزاؤه، وتبدو أخلاقه بما فيها من مرض وفساد، وأحسن المجالس عنده في الرياض والبساتين، بين الأزهار والرياحين، وعلى الأخص إذا جاء فصل الربيع، ويطيب له الشراب على آلات الطرب وأصوات المغنين، يحف به الساقي والنديم، وتراه شديد الاهتمام بهما، يصفهما وصفًا دقيقًا، وقد يفضلهما على الخمرة التي يتعبد لها، وأكثر ما يكون ساقيه من الغلمان، فإذا وصفه شبهه بأبناء الخلفاء والملوك من عباسيين وغساسنة، وربما دارت عليه بالكأس جارية، ولكنها تكون غالبًا غلامية مطمومة الشعر. ثورته على القديم وخمرياته تطلعنا على تجدده وثورته على القديم، فهو — كما عرفنا — شعوبي النزعة يؤثر الفرس على العرب، وينفر خصوصًا من الحياة البدوية، ولا يأنس بأساليب الأعراب، من وقوف على الأطلال وبكاء على الدمن، ولا يلذ له وصف النوق والشياه والوحش والقفار، وإنما يطيب له أن يصف ملاهيه ومجالس لذته، فكان يهزأ بالشعراء الذين يقفون على الديار، ويبكون الأطلال البالية، ويستنطقون آثارها، ويسألونها عن ليلى وهند وسواهما من عرائس الشعر، ويدعوهم إلى اتباع مذهبه: لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند.


آراؤه وعقائده لم يكن لشاعرنا مذهب يعتمده إلا اللذة، فعليها وحدها بنى آراءه وعقائده، وفي خمرياته ومجونه يظهر لنا مذهبه هذا، مسخرًا له أحكام الدين وشرائعه، قانعًا من دنياه بكأس وحبيب: رضيت من الدنيا بكأس وشادن. يا من يلوم على حمراء صافية. وقائل: هل تريد الحج؟ قلت له:. عاطني كأس سلوة. خُلِقَ الغفران إلا. وضع الزق جانبًا. فقل لمن يدعي في العلم فلسفة:. أما استنباط هذه الأحكام فعائد إلى إعمال العقل ودرس الكتاب، وهذا كان سبب اختلاف الشراح في الشرح، والتأويل — التأويل ضد المعنى الحرفي — والاستنتاج. ولهذا كانت غاية الجميع واحدة، وهي غرض الشارح في أحكامه. فالشيعة المعتدلة مثلًا تكتفي بتكريم الإمام علي وذريته، أما الشيعة المغالية، وهي مجموعة فِرق، فتدعي الحلول في علي وسائر أمته. كالهندسة والموسيقى والفلسفة، وهي نتيجة أبحاث المسلمين من رجال العلم بالمدنيات القديمة التي وجدوها أول نهضتهم، فنقلوها إلى لغتهم، وحفظوا خلاصة علم اليونان والكلدان والسريان والهنود والأقباط، فدرسوها وأتموها وبنوا عليها مدنيتهم، وبهذا مهدوا السبيل للنهضة العربية في القرون الوسطى.


ومما يجدر ذكره أن غزاة العرب كانوا أوفر تساهلًا من جميع غزاة الشعوب عن قصد أو عن غير قصد؛ لأن هؤلاء إذا احتاجوا إلى علوم مغلوبيهم طلبوا إليهم فكتبوا المؤلفات بلغتهم الخاصة دون لغة الغالب. أما العرب فكانوا يحضون المغلوبين على اتباع دينهم وشريعتهم ولغتهم. ولم يخلُ تركيب اللغة من هذا التأثر كما سبق فقلنا. وكان تعبير الكتب العلمية؛ وخصوصًا الفلسفية، لا يضاهي تعبير الكتب الأدبية متانة بسبب استعمال فعل الكون، يوجد، وكثرة الجمل الاعتراضية، واستعمال الفعل المجهول، وإدخال هو بين المبتدأ والخبر. وكان من التعبيرات الجديدة اللانهاية واللاأدرية واللاضرورة، الكيفية، الكمية، الماهية، الهوية، ثم بنقل الألفاظ الوضعية أو الاسمية: ماني، ماسية. أما نظرية الموسيقى فلم يتوسع فيها العرب إلا بعد ازدهار الترجمة عن اليونان، فبحثوا في ذلك بحثًا مليًّا، وكان أكثر البارعين من العلماء والفلاسفة، وهم يذكرونها كاليونان بين الرياضيات، ويجعلون مقامها بعد الهندسة.


وقد اشتهر الغناء مع الموسيقى الوترية، فكان للمغنين مراكز رفيعة في عين الخاصة والاعتبار عند الخلفاء. وقد جمع أخبارهم وحوادثهم وبعض طرق صناعاتهم، أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني. فحنين هذا ترجم كتبًا فلسفية وطبية، وكان تأثيره أقوى في مجرى الفلسفة. فالكبريت والزرنيخ حيان بالنسبة للطَّلْق، ميِّتان بالنسبة للزئبق. وفي كل التحام كيماوي جسم وروح. غاية الكيماوي أن يجد روحًا حيًّا، وإكسيرًا قادرًا على تحويل الأجسام، وهذا الإكسير هو حجر الفلاسفة، وهذا الحجر ينتج عن كائن حي. وهنا يختلف الكيماويون في حقيقته، فالبعض يقولون دم أو شعر أو بيض أو مفرزات. فإذا وجد هذا الحجر وسُحق وجُبل بالماء مع بعض العقاقير يتحول إلى إكسير. الأجسام الأولية سبعة: الزئبق، الذهب، الفضة، النحاس، الحديد، الرصاص، الطلق.


وهي تختلف كمالًا، فالذهب أكملها. فعلى الكيماوي أن يربي الباقية، ويقودها إلى الكمال شيئًا فشيئًا. اختلف العرب في إمكان الوصول إلى هذه النتيجة، فالرازي يعتقد بصحتها، والكندي وابن سينا ينكران. أما علماء عصرنا فرأوا بعد الاختبارات أن مبادئ القدماء لم تكن كلها فاسدة، وإن كانت أعمالهم قريبة من المحال. فنرى مثلًا تحويل المعادن الذي ذكره جابر منذ أكثر من ألف سنة يشتغل به كيماويو القرن العشرين، وقد توصَّل بعضهم إلى شيء منه. ويُعتقد أن أصل المعادن الأورجانوس، وأنه بفضل ما توصل إليه من العلوم الكهربائية عن الذُّرَيْرات الدقيقة التي تتركب منها المعادن، وكيفية التحامها ببعضها، قد يكون لآراء جابر قيمة تذكر. فالاختبارات التي أجراها هذا العالم بخصوص المغناطيس وقيمته، والتمغنط به، وفقدان القوة المغناطيسية، مما كان يعد جديدًا في ذلك الزمان، فهو محدد المغناطيس.


حجر يجذب الحديد بقوة روحية لا تلمس ولا ترى. وقد يعرض لهذا الحجر ما يفقده تلك القوة دون أن ينقصه شيء من وزنه. ونسب إليه علماء الغرب اكتشاف الماء الملوكي، وهو مزيج من حامض الأكلور والحامض النتروني. ونسبوا إليه الحامض الكبريتي والنتروني ونترات الفضة. وعلى كلٍّ، فقد فتح جابر بابًا واسعًا لكيماويي العرب وغيرهم من بعده. ألَّف كتابًا خاصًّا بالحساب تُرجم إلى اللاتينية، وله أيضًا كتاب في الجبر. ومن علماء هذا الفن يعقوب بن طارق، كان يعاصر هؤلاء، وهو مذكور بين المهندسين الذين خططوا بغداد. وقالوا: الأديب، هو كل من يلمُّ بأحسن كل علم، أما العالم فهو من يتقن فنًّا من العلم. وعلى كلٍّ، المراد بالأدب جمع أقوال العرب وأشعارهم وأمثالهم وأخبارهم، مع نقد ونظر في صحتها، للاستعانة بها على تفسير القرآن وضبط ألفاظه وتفهُّم أساليبه، أخذًا بقول ابن العباس: إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله لم تعرفوه، فاطلبوه من أشعار العرب؛ لأن الشعر ديوانهم.


ظهر هذا الفن في الدولة الأموية، لحاجة الفقهاء لمعرفة عادات العرب القديمة وأقوالهم وطرق تعبيرهم، ليتمكنوا من فهم القرآن وشرحه، فاختص رجال عديدون بدرس الشعر القديم مع حفظه، ودرس الأمثال وأخبار العرب وغير ذلك. وعلى هذه الطريقة أخذ الأدب العربي ينمو رويدًا رويدًا، فما توطدت أركان الدولة العباسية حتى نضج هذا العلم وأُلِّفت فيه الكتب. على أنه لا يسع الباحث إلا أن يتساءل: هل هؤلاء الرواة صادقون فيما قالوا؟ وهل نقلوا رواياتهم عن رجال ثقة؟ غير أن المحققين من رواة العصر العباسي الثاني؛ مثل أبي الفرج الأصبهاني وابن عبد ربه وابن قتيبة وأبي القايم البصري، اشتهروا بنقد هذه الروايات وتبيُّن مواضع الضعف منها، وقد نجحوا في أكثر أعمالهم.


ويمكننا القول إن أكثر الأقوال عن شعر العرب مقبولة صحته، ما لم يظهر لنا برهان واضح مقنع على إنكاره. كان قذر الثياب. درس على أبي عمرو بن العلاء، ودرس أبا نواس. استقدمه الوزير ابن الفضل إلى بغداد، فكان يؤلف ويجيد، غير أنه جرح العرب أجمع بكتابه «المثالب»، فكثر أعداؤه، وسُمَّ بموز فمات، ولم يسِرْ بجنازته أحد لكرههم له. وكان بينه وبين الأصمعي مساماة ومفاخرة. ركيك العبارة، بخلاف الأصمعي الذي قلَّ عنه علمًا، وكان يفوقه تعبيرًا، ولهذا قال أبو نواس: الأصمعي بلبل في قفص، وأبو عبيدة جلد قديم طُوي على عِلْم. غير أن انتقاده يكاد ينحصر بإيراد أحاديث وأحكام من تقدمه. ثم لا يخفى أن تقسيمه هذا ووضعه أربعة شعراء في كل طبقة لمما يؤيد الانتقاد. نقل أحكام الأدباء دون أن يرتبها، ولم يردها إلى أحكام عامة ومبادئ نقدية ليستخلص منها حكمًا خاصًّا به، كما هو شأن نقاد اليوم. لقد بلغ من أمر الأتراك أن استبدوا بالخلفاء، فكانوا يقتلونهم وينصبون من شاءوا منهم؛ «فالمتوكل قتله غلام تركي. فلما تولى المعتز أحضروا المنجمين وقالوا لهم: انظروا كم يعيش الخليفة. فقال من كان بالمجلس: مهما أراد الأتراك.


وهكذا كان، فإنهم قتلوا المعتز شر قتلة، وسملوا عيني المستكفي، وصار القاهر فقيرًا فحبسوه، فكان يلتف بقطن جبة، وفي رجله قبقاب خشب. وفي هذا العصر انتشرت الرشوة والفساد، فأصبح كل حاكم يهمه أن يحتفظ لنفسه بما يستطيع الوصول إليه من المال، وكثر الاغتيال، فالخليفة يخاف على نفسه من جنده وحشمه، والحاكم يخاف على نفسه من الخليفة، والوزير يخاف على نفسه من الجميع. وكان كل هؤلاء معرضين لتصفية الأموال وحجز الممتلكات. وقد تقيدت الأفكار بداعي الاستبداد والقتل. أثَّر الفساد السياسي في الآداب، ولا سيما ما كان فيها نفسيًّا؛ كالشعر والإنشاء، وقُيدت الأفكار، وقلَّ النابغون. وكان للعلوم السبق على الآثار النفسية. استقر الخط العربي على ما وصل إلينا. وكان أول من وضع هذه القاعدة ابن مقلة سنة ٢٨٣. مات في السجن بعد أن صودرت أمواله وقطعت يده ثم لسانه.


توسع الشعراء في البديع والزخرفة، وكان قد ابتدأ بذلك بشار وأبو تمام، فأتمه في هذا العصر البحتري، وزاد عليه ابن المعتز. كان شعراء العصر الأول قد ابتدءوا مع أبي نواس بوصف مجالس الأنس والزهريات، فتوسع نظَّامها في هذا العصر، ولطفت تشابيهها مع ابن المعتز. أخذت العلوم الفلسفية تؤثر بالشعر، فظهر التلميح إليها في هذا العصر، على أنها لم تزدهر إلا في العصر الثالث أيام المتنبي ثم المعرِّي. إن التضييق على الحرية، وعدم التبسط في الأغراض السياسية، وضعف شوكة الأحزاب المختلفة، أثرت في الآداب النفسية، فقلَّ عدد الشعراء ولم يشتهر منهم إلا أصحاب الشاعرية القوية.


كان من نتيجة ذلك أنهم بدءوا يتذمرون ويتشكون من ذهاب من يعرفون قدر الشعر، على حدِّ قول ابن الرومي:. نبغت طبقة من الكتاب الذين انتقدوا الشعر وروايته، فكانوا في العصر السابق ينظرون فيه بلا تمحيص، فصاروا بهذا العصر يتدبرون معانيه وأساليبه بعين النقد، حتى أخذ هذا الفن يستقل عن بقية الفنون. خلَّاق للمعاني النادرة، يأخذ الأفكار المبتذلة فيأتي بصور ووجوه جديدة لم يسبقه إليها شاعر. أجاد العتاب والهجاء؛ لأنه تأثر بمعاملة أهل عصره له، وإعراضهم عنه، حتى كان يجوع ويعرى أحيانًا، وقد طلب الكسوة والرغيف، كما نقرأ في شعره. لم يكن كأبي نواس تارة نزاريًّا وطورًا يمنيًّا، وأحيانًا عجميًّا. وقد هجا إسماعيل بن بلبل لانتسابه إلى شيبان زورًا، حيث قال فيه:. قيام الكتَّاب والحجَّاب في سبيل رزقه ومنعهم إياه من الوصول إلى من يرجو عطاءه. وهناك أصدقاء يتكبرون عليه يعاتبهم بشدة وقسوة عظيمين، ويتهددهم بهجائه المر المقذع، وهذا عتابه للقاسم:. فصاح: وا غوثاه! هو ابن خليفة يصف ما في بيته وأنا أي شيء أصف؟! وأنشدهم قوله في وصف قوس قزح:.


ادعى أنه عباسي كما مر بك، وفي إحدى قصائده برهن على أنه متشيع ومتعصب لهم. ولو حظي بمن ينقِّي له شعره، لكان له أروع ديوان. يصل كتابي هذا على يد الوليد بن عبادة الطائي، وهو على بذاذته شاعر فأكرموه. وكان البحتري من أكره الناس إنشادًا، يتشادق ويتزاور في مشيه مرة جانبًا ومرة القهقرى، ويهز رأسه ومنكبيه، ويشير بكمِّه، ويقف عند كل بيت قائلًا: أحسنتُ والله، لماذا لا تقولون لي أحسنتَ؟ فضجر المتوكل من هذه الحالة، فقال للصيمري الذي كان حاضرًا: أما تسمع؟ بحياتي تهجوه. فقال الصيمري:. ففر البحتري من الديوان، وضحك المتوكل كثيرًا وأمر للصيمري بالجائزة المعدة للبحتري. مصور ماهر للعواطف الإنسانية، يرثي فيُبكي، ويستعطف فيستميل، ويبلغ ذلك بلا عناء. خفيف الروح إذا تغزَّل، موفَّق إذا مدح، شعره رنَّان حتى قالوا فيه: أراد أن يشعِر فغنَّى. وقال هو: من الوفاء إجادة الرثاء. ومع كل ما تقدم من جمال الوصف، كان مغرورًا بنفسه معجبًا بها، ثقيل الظل، مبغوضًا. في شعره غثٌّ ساقط، إلا أن القسم الأكبر منه على جانب عظيم من الطلاوة والدقة، أو براعة التصرف في المعاني والألفاظ، ينتقل بفكره إلى آخر منطقة.


أوصى المكتفي بالله لابن أخيه جعفر بن المعتضد، ولقَّبه المقتدر بالله، وكان عمره ١٣ سنة، فساد الخدم والنساء واستولوا على الأمور، فصعب ذلك على القضاة والقواد فأوصوا الوزير العباس بن حسن في خلعه ومبايعة ابن المعتز، فقتلوا الوزير وخلعوا المقتدر سنة ٢٩٦. بايعوه بالخلافة مرغمًا، وطلبوا من المقتدر أن يخلي دار الخلافة لينتقل إليها ابن المعتز، فأطاع واستمهلهم للغد، وفي تلك الليلة فرَّ إلى الموصل ولم يبقَ في الدار إلا خادمه مؤنس، وخازنه موسى، فبلغ ذلك ابن المعتز، فسار ومعه وزيره محمد بن داود وظن أن الجند يتبعه فخذل، واختفى مع وزيره خوفًا من الغوغاء التي انتشرت في بغداد ثلاثة أيام. وقد نُسب إليه موشح لطيف جدًّا أطلبه في موضعه، ولا نستطيع أن نقول عن الأسبقية، أَلَهُ هي أم لغيره من الأندلسيين. لم يمدح إلا نادرًا وعن اقتناع بوجوب المدح. معظم شعره في وصف الجنائن ومجالس الخلَّان، وأندية الطرب وجمال الطبيعة، والصيد والكلاب، والبواشق والبئزان. أبرع شعراء العرب استعارة وتشبيهًا ووصفًا. فإذا صح قولهم: كلام الملوك ملوك الكلام، فذلك ينطبق على ابن المعتز في زمانه. كانت الأفكار في صدر الإسلام وما قبله، جامعة مختصرة عامة غير مفصلة، فجاء التعبير موجزًا بليغًا، فلمَّا توسع الفكر وفصِّلت معانيه طال الإنشاء واتسع، فابتدأ هذا الأسلوب بعبد الحميد، ثم جاء ابن المقفع فخلا نثره من التسجيع والتقطيع؛ لاتصال المعاني بالأفكار وخروجها من بعضها البعض، فكان الإنشاء المرسل.


ثم جاء الجاحظ، وأدخل أسلوبه المعروف؛ أي عبارات قصيرة كالشعر ولكن دون قافية ووزن. وكان هذا الإنشاء عنوان التفكير المفصَّل غاية التفصيل، والرجوع إلى الذات. فهؤلاء الكتَّاب لم ينصرفوا إلى اللغة وحدها، بل كتبوا في الأدب كما رأيت. شرح كتاب أرسطو، وكتب مقدمة أصول إقليدس، وله رسالة في حل الصعوبات الموجودة في جمهورية أفلاطون. كان صابئي المذهب، قُطِع من مجمع قومه لآراء أنكروها عليه، عاش بين منجمي المعتضد مقرَّبًا منه، يُقبِل إليه دون وزرائه وخاصته. وكان أيضًا من المبرزين في الطب والفلسفة، ومن النقلة المشهورين. اشتهر أبو جعفر محمد في الهندسة والنجوم، واشتهر أحمد في علم الحيل، واشتهر الحسن في الهندسة وكان وافر المقدرة في الاستنتاج. فالحسن هذا لم يقرأ في كتاب إقليدس إلا قليلًا، أما بقية العلم فاخترعه من عند نفسه. كان له مرصد على جسر بغداد، أكثروا بواسطته الأرصاد والتحقيقات في سير النجوم، وألفوا فيها رسالات عديدة، وكذلك في الموازين والأشكال المخروطة، وقياس الدائرة، وخواص الزوايا. ذُكر له مؤلفات بلغ بها بعضهم المائتين، ولم يصلنا منها إلا بعض مقاطع في العلوم مع أربع رسائل فلسفية بترجمتها للاتينية، واحدة منها في العقل والمعقول، وأخرى في العناصر الخمسة: المادة والهيئة والحركة والزمان والمكان.


والفتوحات التي جعلت البلدان تحت سلطة الخلفاء، فكان من اللازم معرفة مواقعها وبُعد بعضها عن بعض ومحصولاتها، ليسنُّوا عليها الخراج، وليتمكن أصحاب البريد الوصول إليها بلا تردد، فتسهل المواصلات. لم يكن للعرب تاريخ سوى شعرهم في جاهليتهم، أما في صدر الإسلام، فكان من التاريخ سيرة النبي ومغازيه، والحوادث التي وقعت في أيامه وأيام الصحابة. نزع العرب إلى تدوين التاريخ في العصر الأموي، فكتبوا أولًا تاريخ الأمم الأخرى؛ لرغبة الخلفاء والقواد في الاطلاع على أحوالهم عبرة واقتداء. وعلى هذا الأساس بُنيت أسس التاريخ الإسلامي. فقبل الإسلام، كان تاريخهم في الشعر، وفي صدر الإسلام، كان مؤرخوهم الرواة والعارفون بعلم الأنساب الذي تتوقف عليه منزلة القبائل والأفراد. إذن بدء التاريخ يكون حقًّا في العصر الأموي، بالاطراد من مدح المشاهير في تحقيق الأنساب لأجل العطاء. إنما كل هذا ذهب ضياعًا. وفي العصر العباسي الأول، تمهيد السبيل لتأليف التواريخ العامة والخاصة؛ فابن هشام يكتب سيرة النبي والمغازي والفتوحات.


الواقعي يكتب في الفتوحات والمغازي، ثم طبقات الشعراء لابن سلام، وطبقات الصحابة لابن سعد. وله كتاب تهذيب الآثار، في الفقه على مذهب جديد اختطه لنفسه، تكلم فيه عن اختلاف الفقهاء الأربعة، فقال ابن حنبل لم يكن فقيهًا لكن محدِّثًا، فنقم عليه الحنابلة فضايقوه. ولما مات دفن ليلًا في داره خوفًا منهم. وتاريخه الفريد في بابه هو مختصر تاريخه الأكبر، تراجَع تلاميذه عن نسخه فاختصروه. نشأ ببغداد وتقرَّب من المتوكل والمستعين والمعتز. ذكر في كتابه فتوح البلدان أخبار المسلمين خبرًا خبرًا، وأنساب الأشراف منهم. تحول الأدب في هذا العصر عما كان فيه في العصر السابق، فتقدم لأسباب، منها تغيُّر عقلية الخلفاء والولاة، ومعيشة الشعب، والتأثر بالعلوم المنقولة.


لم تبقَ في الخلفاء تلك الرغبة القوية في الاطلاع على أخبار العرب ومنازعاتهم وأمثالهم وحوادثهم الشعرية، التي كانت تدفع الأدباء السالفين كالأصمعي وخلف الأحمر وحماد؛ إلى قطع البراري والتعرف إلى القبائل، لجمع أخبار الشعراء والمتاجرة بها. فانصرف من كان من هذا النوع عن غاية التجارة إلى غاية العلم، فدققوا في صناعتهم، وأخذوا يشتغلون بنوع آخر معها، حتى ندر وجود أدباء لم يشتغلوا إلا بالأدب. أما الأسباب فلأن البيئة أصبحت غير عربية، الحكام أعاجم لا تهمهم أخبار العرب وحكاياتهم، والشعب كأمرائه لا يكترث للعربية، فاعتاض رواته عن الشعر العربي وأخبار العرب، بالقصص من مصدر غريب، مثل ألف ليلة وليلة.


وكان أن فساد الحكومة، والنزاع الدائم على الخلافة، ومصائب الخلفاء وكبار القوم، دفع الأدباء إلى تعزية الجمهور المصابين وتخفيف وقع النكبات بالأقوال الحكمية، ومبادئ الزهد، وأخبار رجال الدنيا وأصحاب الفضيلة. فكثرت هذه الأنواع، وحلَّت من كتب العرب مقامًا فسيحًا. لُخِّص هذا الكتاب وشُرح ثلاث مرات. وله كتاب الشعر الكبير، خُطَّ بالقسطنطينية. وكتاب عيون الأخبار، عشرة كتب، طُبع حديثًا في مصر. لقد استفاد كثيرًا من علومه المختلفة، فأدخل روحًا جديدًا في الانتقاد؛ أي إنه كان جريئًا تجاوز نقد الظاهر إلى المعنى، ففنَّد كثيرًا من مصطلحات الأدباء. وُلد في البصرة، وكان في أول عهده بيَّاع خبز وسمك. لقِّب الجاحظ لدمامة خلقه، وجحوظ عينيه. استدعاه المتوكل لتهذيب ولده، فاستبشع سحنته، فصرفه بعد أن أمر له بشيءٍ من المال. ومما قاله لابن أخته: لم يبقَ لي من ملاذ الدنيا إلا ثلاث: ذمُّ البخلاء، وحكُّ الجرَب، وأكل الحديد. القول بالقدَر، وأن الله لا يخلق أفعال الناس، بل هم يخلقون أعمالهم، ومن أجل ذلك يثابون ويعاقبون. القول بسلطة العقل وقدرته على معرفة الحسن والقبيح، ولم يرد بهما شرع؛ أي إن الشرع لم يجعل الشيء حسنًا بأمره به.


فيستنتج من هذا أن لا فضل لهم بالعمل، ثم يتخطى إلى أنه لا ثواب ولا عقاب، كما لا يثاب الإنسان ولا يعاقب على تركيب بدنه ولونه. ولقد كان الزمان أكبر مثقِّف للجاحظ؛ فقد وُلد في خلافة المهدي، ونشأ في خلافة الهادي، وشبَّ في عهد الرشيد، وشهد صراع الأمين والمأمون، ونضج في عهد ازدهار المعتزلة، واشترك في جميع الأبحاث العلمية والفلسفية. رأى الفرس وغلبتهم، والترك وسطوتهم وحلولهم محلَّ الفرس. كما عاين دولة الواثق تنهج نهج المعتصم، والمأمون يناصر الاعتزال، والمتوكل يشرِّدهم. ومرت عليه دولة المنتصر والمستعين والمعتز، وهو يعاني الفالج والنقرس، حتى مات في عهد المهتدي بالله. فحياة الجاحظ تاريخ قرن بكامله، وهو زهرة القرون العباسية، وقد مر في كل أطوار الحياة؛ من ولد يبيع خبزًا وسمكًا بسيحان، إلى رجل يخالط العلماء، إلى كاتب مثقف يغتني بما ألَّف، ويمتلك ضيعة تنسب إليه، ويبني قصرًا، ويقتني عبيدًا خدموا في قصور الملوك. رحل إلى بغداد زمنًا، ثم إلى دمشق وأنطاكية، وهذه ثقافة جديدة اكتسبها من غير الكتب بدرس طبائع الناس وأخلاقهم ومعرفة دخائلهم.


ولهذا ترى في كتبه شيئًا ملموسًا عن الحياة، فكأنك تراها وتذوقها من وصف الجاحظ، وهذا لا تراه إلا في كتب الجاحظ. فكامل المبرد، وأمالي القالي، وعيون ابن قتيبة، لا تريك شيئًا من هذا؛ ولهذا نرى كتب الجاحظ أغزر مصدر لدرس الحياة الاجتماعية في هذا العصر. هذا في الباب الأول، ثم عقد بابًا للبيان، وذكر بلغاء وخطباء وأنبياء وفقهاء وأمراء، ثم تكلم عن البلاغة واللسان والصمت، وأسماء كهَّان وعلماء قحطان وأمرائهم … إلخ. أما الجزء الثاني، ففيه يقول: إنه ردٌّ على الشعوبية. ولكنه روى الأحاديث والخطب والألغاز والحكم، وتكلم عن اللحن والحمقى والمجانين، وكتب وصايا ونوادر لبعض الأعراب … حتى إذا أتمَّ الجزء الثاني جاء الجزء الثالث، وأوله كتاب العصا في الرد على الشعوبية، ثم كتاب في الزهد، تكلم فيه عن النساك وكلامهم وأخلاقهم ومواعظهم. ثم باب في دعاء السلف الصالحين والمتقدمين، ودعاء الأعراب، ثم مقطعات في نوادر الأعراب وأشعارهم. ويخبر الجاحظ أنه في هذا الانتقال العجيب يصادف عناءً ما كان يصادفه لو كتب في موضوع واحد. أما مصادر هذا الكتاب فكثيرة: القرآن، التوراة، الإنجيل، حديث، أخبار، أشعار، أمثال مضروبة، كُتب قرأها في فنون شتى، محادثة أطباء وتجَّار وذوي حرف، وتجارب جربها بنفسه في الحيوان والنبات، وسَفَر وسماع لمن مارس الأسفار وركب البحار وسكن الصحاري وسلك الأودية.


وفي كل ما حدث لم يقبل عقله خرافة، بل يهزأ بمن يقبلها. وهو يشك، حتى يجرب وتثبت النظرية. وهو يلاحظ في أبحاثه ملاحظات كأنه فيها من علماء هذا الزمان. إن الثقافات التي وصفنا الجاحظ بها تظهر في كتابه هذا أكثر منها في كتابه الأول. فمن أهم العناصر التي اعتمد عليها الجاحظ في كتاب الحيوان، ما كتبه أرسطو عنها، وهذا الكتاب نقله إلى العربية ابن البطريق، كما يقول ابن النديم في فهرسته صفحة ٢٥١. قد ذكر الجاحظ أرسطو في كتابه باسم صاحب المنطق؛ أي أرسطو، وصرح باسمه أيضًا. إن موقف الجاحظ منه كان موقف العالم الجريء، فلم يُصَب أمامه بشلل الفكر، كما أصاب ابن سينا وغيره من الفلاسفة في الشرق والغرب، إذ لم يقدموا على مناقشته. أما الجاحظ، فكان يضع أرسطو في مخبره يمتحنه ويجربه، ويخطِّئه أحيانًا، ثم يقارن بين قول أرسطو وبين قول شاعر جاهلي أو إسلامي، ويفاضل بينهما، فيكون طورًا مع أرسطو وحينًا عليه.


وإليك برهانًا هذه الحكاية. قال الجاحظ: زعم صاحب المنطق أنْ قد ظهرت حية لها رأسان، فسألت أعرابيًّا عن ذلك، فزعم أن ذلك حق. فقلت له: فمن أي جهة الرأسين تسعى؟ ومن أيهما تأكل وتعض؟ فقال: أما السعي، فلا تسعى، ولكنها تسعى إلى حاجتها بالتقلب، كما يتقلب الصبيان على الرمل؛ وأما الأكل، فإنها تتعشى بفم وتتغدى بفم؛ وأما العض، فإنها تعض برأسيها معًا. وختم القصة بقوله عن الأعرابي: «فإذا به أكذب البرية. فلا يظنن أحد أن كتاب الحيوان لا يتناول إلا الحيوان فقط، فهو فيه كثير التنقل من موضوع إلى آخر كما وصفناه. ففيه شيء من علم الفراسة عن أقليمون، ومن الطب عن جالينوس، وفيه يتكلم عن الفرس وأديانهم، وعن اليهودية والمسيحية، وعن أشياء لا تخطر ببال. وقصارى الكلام، أن كتاب الحيوان معرض لكل الثقافات: عربية ويونانية وفارسية وهندية، ومعرض أيضًا للثقافات الدينية: مانوية وزردشتية ودهرية ويهودية ونصرانية وإسلامية. وقد أثَّر أسلوب الجاحظ هذا فيمن كتب بعده، فجاءت كل كتب الأدب تقريبًا غير مبوَّبة، يكثر فيها الاستطراد. يخال القارئ أن كتاب البخلاء حكايات ونوادر مضحكة، مع أنها أعمق دراسة للنفس البشرية، تحل الأعمال وبواعثها وأغراضها.


فالجاحظ هنا عالم نفساني قبل أن وجد هذا العلم، يمارس بلباقة لا توصف بين النظرية والتطبيق، فيجلو لنا الأشخاص أيما جلاء. كتاب البخلاء تناول ناحية واحدة من النفس، هي البخل، فقلَّبها على جميع وجوهها، ونظر إليها من كل جانب. ولو عني الجاحظ في جميع مناحي النفس لجاء عمله تامًّا، ولكنه وضع أساسًا لهذا العلم وشقَّ طريقه للناس، فلو طلبنا اليوم إلى أكبر علماء النفس أن يحلل نفسية البخيل ما استطاع أن يكتب مثل كتاب البخلاء، لا من حيث التحليل الدقيق، ولا من حيث الفن الرائع، وإذا ضاهاه أحد في فن القصِّ قصر عنه في الفكاهة والسخر العميق. ولئن كتب موليير واصفًا بخيلًا واحدًا، فالجاحظ لم يدع بخيلًا يفلت منه، وكل ذلك بروح مرحة ونفسية فكهة ساخرة. مزج الجد بالهزل، والفلسفة بالفن، والتفكير بالاطلاع الواسع.


استطاع أن يكون مصوِّرًا يحسن رسم الشخوص ومزج الألوان. يروح ويجيء بخفة الطير. هو قصصي ماهر يجيد سَوْق قصته إلى غرضه. وإني لإخال الجاحظ قد عرف هؤلاء الأشخاص الذين تحدث عنهم وعايشهم، فأحسن تصويرهم ولم يدع خطًّا واحدًا. لست أظن أن أحدًا يستطيع أن يكتب بمثل هذا التفصيل قصة بخيل كالكندي، صاحب بيوت الكراء في البصرة، إن الجاحظ مطبوع على الجدل، ولهذا نرى في بخلائه هذه الصفة بارزة جدًّا. خذ مثلًا لذلك عبد الرحمن آكل الرءوس، لترى كيف يغوص الجاحظ على الأعماق، فينتقد ويجادل حتى يشبع نفسه المتعطشة إلى مثل هذا الكلام. من عادة القصصي أن يعرِّفك بمن يتحدث عنه، بوصفه لك ظاهريًّا، أما الجاحظ فما عمل شيئًا من هذا، ولكنه رسمه لك نفسيًّا فتتخيل أنت ظاهره. شخصيته بارزة في كل شيء؛ ففي حياته شخصية بارزة لا تمتزج بغيرها من الشخصيات، وفي آرائه متكلم شخصي، وفي إنشائه أديب شخصي.


هو الرجل الذي يكوِّن نفسه ويطبعها على غرار خاص. وكلمة «نسيج وحده» كأنما كُتبت لتقال في الجاحظ. وإذا كان الأدب هو الإلمام بكل فن، فالجاحظ هو الأديب، هو الكاتب الفريد الذي يأسر قارئه، وإن حدَّثه عن أتفه الأشياء. الجاحظ في الشرق، كفولتير في الغرب؛ هو مزيج من كل ما عرفه العرب من ثقافات. فهذا رجل جدٌّ ودين من رؤساء أهل السنة، مطلع كل الاطلاع على التوراة والإنجيل، وقد أكثر النقل عنهما، وبكلمة مختصرة، نقول: إن ثفافته واسعة دينيًّا ومدنيًّا، ولكن ليس في أسلوبه طلاوة الجاحظ. في العصر الأموي، كانت الدولة عربية في كل شيء؛ خليفة وجنود وقواد وعمال. كانت العصبية شديدة للعرب، وسيادتهم على الشعوب قوية. احتقار وامتهان لكل ما هو غير عربي. لم يحدث تغيُّر جوهري في اللغة، فما فتئت تجري مجراها وترتقي رقيها الطبيعي، حسب العمران الجديد، دون أن تنتقص أو تزيد في أفكارها ومعانيها. في ذلك الوقت، تعرَّبت الشعوب الخاضعة لسلطة العرب، فدانت بدينهم وتكلمت بلغتهم، وإن كان بلحن، ثم تحركت الشعوب المغلوبة، وانتشر روح الشعوبية بينهم، وازدادوا يقظة للنهوض عندما رأوا أن الفاتحين الذين غلبوهم لا يفوقونهم بشيء.


وكان الفرس في مقدمة الشعوب الثائرة ضد العرب. أوجدوا دولة جديدة، عربية برئيسها وأجنبية بدولتها؛ أي برجال الحكومة الذين كانوا من غير العرب، من الفرس والموالي، فضعفت العصبية العربية، وتمكَّنت الشعوبية، وتكوَّنت دولة جديدة، قوامها الفرس وأركانها السريان والترك والبربر … إلخ، فأخذ كل واحد من هؤلاء الشعوب يُخرِج من خزائن آدابه ذخائر علومه التي طابت للخلفاء، وما امتازت به أمته، فحصلت ثروة عظيمة للغة، فزادت ألفاظها الوضعية من ترجمة اللغة الأجنبية، أو بنقلها إلى اللغة العربية بلفظها الأصلي، أو بتعريبها، فلطفت العبارة بما أُدخل فيها من التجمُّل والتلطُّف، حسب عادات الشعوب المتمدنة. أما في العصر العباسي الثاني، فتلاشت تلك العصبية العربية، وضعفت الخلافة، واشتدت الدولة الأعجمية وقويت.


استعان المتوكل بالأتراك لا بالعرب لضرب الفرس؛ لأن العرب ضعفت ثقتهم بالخليفة، وقلَّت قيمتهم. فقاوم الأتراك الفرس، واضطهدوا الخليفة، واتفقوا مع الفرس بمناضلة العرب، فتسرب الضعف إلى اللغة العربية، فأصبح بعض الأمراء يدفعون الكتبة ليؤلفوا بلغة أجدادهم، ويقصوا أخبار قومهم؛ كالدقيقي والفردوسي. وفي سنة ٣٢٣ اضطر الراضي أن يقلد محمد بن رائق الوزارة وإمارة الجند، ولقَّبه أمير الأمراء. وخُطب لابن رائق في البلاد على المنابر، وفُوِّض إليه الخراج في جميع البلاد، ومن ثم أصبحت الخلافة رسمًا دينيًّا صوريًّا، وأصبح الخليفة وليس بيده من سياسة الملك شيء، بل الأمر كله بيد أمير الأمراء، وليس للخليفة إلا الخطبة والسكَّة، بل يشركه في الخطبة أمير الأمراء.


فانقسمت المملكة هكذا: لم يبقَ للخليفة غير الخلافة وأعمالها، والحكم فيها لابن رائق. أما باقي الأطراف فكانت: البصرة بيد ابن رائق، وخوزستان بيد أبي علي محمد بن إلياس، والري وأصفهان والجبل في يد ابن بويه ركن الدولة، وهو وشمكير بن زيار يتنازعان عليها، والموصل وديار بكر ومضر وربيعة في يد بني حمدان، ومصر والشام في يد الإخشيد محمد بن طغج — وإخشيد لقب ملوك فرغانة ومعناه ملك الملوك — والمغرب وأفريقيا في يد القائم العلوي، والأندلس في يد الناصر الأموي، وخراسان وما وراء النهر في يد نصر الساماني، وطبرستان وجرجان في يد الديلم، والبحرين وعمان في يد أبي طاهر القرمطي. أما الراضي فمات سنة ٣٢٩، وهو آخر خليفة انفرد بتدبير الخلافة، وآخر خليفة خُطب له على منبر يوم الجمعة، وآخر خليفة كانت نفقته وخدمه وحجابه وكل شئونه على قواعد الخلفاء المتقدمين.


أما إمارة بني بويه، فأعلنها المستكفي ولقَّبه معز الدولة، ولقَّب أخاه حسنًا ركن الدولة، ولقَّب أخاه عليًّا عماد الدولة، وضرب أسماءهم على النقود. ولما عزم المستكفي على الفتك بابن بويه، شعر ابن بويه بذلك فخلع الخليفة سنة ٣٣٤ وسجنه حتى مات ٣٣٨. وسلب بنو بويه كل سلطة الخلافة، ولم يبقَ للخليفة إلا كاتب يدير أملاكه. واستعاد معز الدولة بن بويه مدنًا كثيرة حتى بلغ ما لم يبلغه قبله إلا الخلفاء. أما دولة الفاطميين، فظهرت سنة ٣٥٨ على يد جوهر القائد، فبايع الناس الفاطميين وانقطعت الخطبة عن بني العباس، وبنى جوهر القاهرة لإسكان الجند فيها. وأول خليفة دخلها هو المعز سنة ٣٦٢، ثم ملك دمشق وغيرها.


وفي أواخر هذا العصر، ضعفت الدولة الأموية في الأندلس حتى انقرضت سنة ٧٠٤، بعد أن دامت ٢٦٨. وقسِّمت، وامتلك كل عامل المنطقة التي كان يحكمها، وذلك كما جرى في الدولة العباسية كما رأيت. وظلت تنتقل في يد ملوك الطوائف إلى أن خرجت من المسلمين تمامًا في أيام بني الأحمر سنة ٨٩٧. فبقيت سوق الأدب رائجة أكثر من قرنين، ثم اضمحلَّت بالتدريج بتغلُّب النزعات القومية، وانقراض العلماء والأدباء المطبوعين بطابع الدولة العباسية، حتى خرج التتار، في أواسط القرن السابع، وخربوا ملكهم وقتلوا علماءهم وبددوا كتبهم، فجمدت اللغة العربية في أواسط آسيا جمودًا لم تنتعش بعده. إنما حدث الشعر التهكمي المضحك على لسان ابن سكَّرة وابن حجاج في بغداد، ثم انتشر هذا النوع، وهو بمنزلة جرائدنا الهزلية اليوم.


وظهر نوع آخر، وهو شعر فلسفي يشرح بعض الحقائق الفلسفية وحركة الأجرام السماوية؛ كشعر ابن سينا والرازي وابن التلميذ الطبيب، وشعر آخر صوفي رمزي نشأ في العراق ثم انتقل إلى الشام ومصر، كما في شعر الحلاج والشبلي والقشيري. وهجر الشعراء استعمال الغريب من اللفظ والغويص من الأسلوب، واستعملوا ألفاظًا أعجمية واصطلاحات فنية ومحسنات بديعية وألفاظ مجون وسخف. أما المعاني المخترعة فكانت في شعر البغداديين؛ لأنهم فاتحو باب الهزل، الفن الجديد. ولكن بين شعرائهم الهزليين شعراء ألمُّوا بالمعاني الشريفة والأخيلة الرائعة، وتنزهوا عن هذا الخليع؛ كالشريف الرضي ومهيار الديلمي.


وقد كان شعر أهل العراق عامة أرقَّ أسلوبًا وأفصحَ لفظًا من شعر أهل فارس وخراسان. أحبَّ وزراء هذه الدولة وأمراؤها وخلفاؤها العلمَ والأدب والشعر أقصى محبة، فهاجر الأدباء إلى مصر من كل فجٍّ، فجلس الخلفاء للشعراء في الأعياد يستعرضون بضاعتهم وأجازوهم أسنى الجوائز. ولم يُخمد هذه الشعلة المدنية إلا نشوب الحرب الصليبية ومنازعة مواليهم لهم كما أصاب الدولة العباسية، فأباد صلاح الدين الأيوبي خلافتهم الفاطمية، وأسس دولة كردية في النَّسَب مستعربة في اللسان والنزعة، على أنقاضها. انتفعت الدولة الأيوبية بحضارة الفاطميين، وأحلَّت محلَّ مذهبهم الشيعي الباطني، مذهب أهل السنة.


أما المملكة الأيوبية فقوَّضها مماليكها التركمان. ولهذا لم تكن الفسطاط والإسكندرية ودمشق بيئة صالحة في ذلك الوقت لإقامة الشعراء، ولكن لمَّا ضعفت بغداد قاسمتها مصر والشام العناية بالأدب والشعر والفنون، فعاش فيهما شعراؤهما ولم يرحلوا إلى غيرهما إلا قليلًا. والمثل دويلة سيف الدولة الصغيرة في شمالي الشام، فقد التفَّ فيها حول أميرها جمهرة من الشعراء والأدباء والفلاسفة والنحاة … إلخ. من الشام ومختلف الأقطار، من لم يُرَ مثله في باب خليفة، بل إن شاعر سيف الدولة لم يبالِ بخليفة بغداد ووزيرها المهلبي عند مروره بها قاصدًا عضد الدولة. فالشعر زمن الأيوبيين والفاطميين لم يطَّرد تقدمه؛ لطول هذا العصر وتقاصر همم الملوك في أواخره عن معاضدة أهله، فانصرف الشعراء أخيرًا إلى الخدمة في الدواوين، وظلوا ينظمون الشعر إما تكمُّلًا وتظرُّفًا أو تملُّقًا للرؤساء وتقرُّبًا منهم.


لذلك كان مبدأ هذا العصر بمصر والشام نهاية ما وصل إليه الشعر العربي من الارتقاء، كما في شعر المتنبي وأبي فراس والمعري، لقرب عهدهم بالعصر العباسي السابق وتأدُّبهم بأدبه. وأخذ الشعر يتحول رويدًا رويدًا إلى صورة وطنية قومية، بسبب ما نشأ في مصر والشام في قرنين من حضارة خاصة ومذاهب مختلفة شيعية وباطنية وصوفية وسنية، وكلها ذات تقاليد ورسوم حديثة، وبسبب ما دهم البلاد من الحروب الصليبية التي غيَّرت مجرى الحكم ونُظُمه وطرق الكسب والمعيشة، وشغلت الناس عن الاستزادة من العلم والأدب. ولقرب الشام من العراق أبقى فيهم في مطلع هذا العصر مَلَكة التكمُّل بالمعرفة والعلم، والتزوُّد من العلوم الإسلامية، والفلسفة المنقولة عن الأوائل، التي رسخت في أذهان نشء هذا الزمان بالعراق والجزيرة وشمالي الشام. كل هذا من الأسباب التي تنمِّي مادة الخيال، وتجمِّل صوره وتشكِّلها بما لا يحصى، ويجود اللفظ؛ ولذلك نجد أشهر الوصَّافين من الشاميين؛ مثل كجاشم والصنوبري والوأوأ، فكجاشم من الرملة فلسطيني، والصنوبري حلبي من شعراء سيف الدولة، والوأوأ دمشقي وهو القائل:.


وتوسَّع شعراء الشام في وصف المعارك الحربية؛ لكثرة وقوعها بين دول الجزيرة والشام ومصر من جهة، والروم البيزنطيين والإفرنج الصليبيين بعدئذ من جهة. فشعراء سيف الدولة؛ كالمتنبي وأبي فراس والنامي والببغاء، وشعراء نور الدين بن زنكي وصلاح الدين الأيوبي، ممن يجيدون وصف المعارك الحربية العماد الأصبهاني والجواني ممن مدحوا صلاح الدين. وتوسَّع شعراء الشام في الحِكَم والأمثال، كما فعل المتنبي، ونقْدِ العادات وشرح الفلسفة وإحسان معاملة الحيوان، كما فعل المعري. وتنوعت التهاني؛ وخصوصًا في مصر، بسبب الأعياد التي كان يقيمها الفاطميون؛ كوفاء النيل، وفتح الخليج، ومولد النبي، والنيروز المصري، وقافلة الحاج. وتنوع الشعر الصوفي بتنوع الكنايات والرموز عن أسراره بالغزل والخمريات ووصف السير والسرى، ثم خرج عن طريقة الرموز والكتابة إلى تقرير حقائق التصوف وتقسيم مقاماته وأحواله. ولما تغلبت الدولة الفاطمية وغلبت حضارتها وعلومها وفلسفتها ورخاؤها، مال الأدباء فيها إلى الظُّرف والتملُّح في كل شيء، فاستدعى ذلك رقة اللفظ، ولطافة المبنى، والميل إلى المحسنات اللفظية، فاشتهرت هذه الطريقة في أواخر العصر الفاطمي بين المصريين من أمثال القاضي الفاضل، وابن سناء الملك، وابن النبيه، وابن مطروح، ثم انتهت بالبهاء زهير، فتبسَّط فيها حتى قربت من درجة لفظ العامة، وسرى هذا الروح إلى شعراء الشام.


فتبعه بعض القوم من بني كلب وكلاب وعبس، فسجنه لؤلؤ أمير حمص، ثم استتابه وأخلى سبيله. المعري يكذِّب الرواية، أما المتنبي فقد قال عندما سئل عن ذلك: هذا شيء كان في الحداثة. فذهب المتنبي إليه، فأخلى له دارًا وخلع عليه، فمدحه بقصائد رائعة انتقامًا من سيف الدولة عدو كافور الألد. وإليك هذا التعريض:. ومدح أيضًا سيد كافور ابن الأخشيد، فأكرمه جدًّا، حتى صار يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفَّان وفي وسطه سيف ومنطقة بحاجبين من مماليكه وهما بالسيوف والمناطق. رغب وزيره المهلبي أن يمدحه، فأبى مترفعًا عن مدح غير الملوك، فاغتاظ الوزير وحرَّش به شعراء بغداد فتناوشوه، فلم يجبهم أبدًا، فسئل في ذلك فقال: لقد فرغت من إجابتهم من زمان، بقولي:. وقد انتقد ابن العميد قصيدته: بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا … إلخ، فأجابه المتنبي بقصيدة يعتذر عن ضعف تلك، ومطلعها: جاء نيروزنا وأنت مراده.


فقال له أبو نصر: قل إن شاء الله. فقال: هي كلمة مقولة لا تدفع مقضيًّا ولا تستجلب آتيًا. كان يرى نفسه مساويًا للملوك والأمراء وأعظم كثيرًا منهم. كان يشترط على ممدوحيه ألا ينشدهم إلا جالسًا، وألا يقبِّل الأرض بين أيديهم. ولما سئل أن يعيد إنشاد قصيدته واقفًا ليسمعها كل الجمع، قال: لكل امرئ من دهره ما تعودا … وهو مطلع القصيدة المذكورة، وأعاد إنشادها جالسًا. وقد قال فيه من رثاه: كان من نفسه الكبيرة في جيش، ومن كبرياءه في سلطان. اتُّهم بالزندقة والكفر لاشتغاله بمذاهب الفلاسفة، وظهر ذلك الأثر في شعره لوصفه الممدوح بصفات المعبود، فنقم لذلك أهل إشبيلية فأشار عاملها عليه بالهجرة، فهاجر إلى المغرب ومدح ولاته من قبل المعز الفاطمي، فاتصل خبره بالمعز فدعاه إليه ومدحه بإفريقية، ودخل في دعوة الفاطميين فاتخذه المعز شاعرًا لدولته.


ولما فُتحت مصر على يد جوهر وبنى القاهرة ورحل المعز إليها، أراد ابن هانئ اللحاق به، فتجهَّز وتبعه، ولما وصل إلى برقة نزل على بعض أهلها، فأقام عنده في مجلس أنس، يقال إنهم عربدوا عليه وقتلوه وعمره ٣٦ سنة، ويقال أيضًا إنه وُجد مشنوقًا بتكة سراويله. روي أنه عندما بلغ المعز خبر موته قال: هذا شاعر كنا نرجو أن نفاخر به الشرق. هو كبير شعراء الأندلس، غير مدافع، سليم التفكير، سلس التعبير، عالج كثيرًا من مشاكل الحياة وأحوال الاجتماع. أُسر أبو فراس مرتين؛ في المرة الأولى لم يتعدَّ به العدو قلعة خرشنَّة، أما في المرة الثانية فحُمل إلى القسطنطينية، وأقام في الأسر أربع سنين. له في هذا الأسر قصائد عدة تُعرف بالروميات، وهي رقيقة جدًّا. فيها عتاب شديد لسيف الدولة؛ لأنه لم يسرع إلى المفاداة. فوا عجبًا من هذا الفارس الشجاع الذي يفلق الهام، كيف تحوَّل إلى شخص فاقت عواطفه عاطفة الأمهات.


فاسمع شعره في روميات تحس هناك عاطفة تتدفق كالبحر الزاخر. أما ما قاله صاحب اليتيمة عن أن المتنبي لم يمدحه مع أنه مدح من أمراء آل حمدان من هم دونه، وعدَّ ذلك من المتنبي تهيُّبًا لمقام أبي فراس وإجلالًا لا إغفالًا وإخلالًا، فهذا حكم في غير موضعه، فكيف يمدحه أبو الطيب وهو يعلم أن أبا فراس مناظر له، وكان يتعقَّب سقطاته وينسب إليه الأخذ عن هذا وذاك؟! اتصل الشريف بالخليفة الطائع ومدحه بإخلاص كما مدح القادر، ثم مال إلى بعض الوزراء والملوك طمعًا بالخلافة التي كان يؤمِّله فيها أبو إسحاق الصابي، وتوفي ولمَّا يبلغ منها أربًا. قال الرثاء صادقًا مخلصًا، وخصوصًا في رثاء الحسين. وقال المدح بعزة النبلاء، وأرسل الفخر رصينًا بلا تبجح. كان فخره بأصله ومكارم أجداده بخلاف المتنبي. عبارته تقليدية بخلاف عبارة المتنبي، وقد وصف موكب الحج، والشيب والطبيعة. كان أسلوبه مزيجًا من البداوة والحضارة، سامي الخيال، حافلًا بالصور الرائعة والعبارة المتماسكة. أخذ عن والده مبادئ العلم، ثم قصد حلب وتحدث إلى علمائها وزار مكتباتها، ثم ذهب إلى أنطاكية واللاذقية وعاد إلى طرابلس، وأخيرًا قصد بغداد وجالس علماءها في مجالس العلم والأدب، ولما بلغه نعي أمه رجع إلى المعرة وحبس نفسه في بيته، وسمِّي رهين المحبسين؛ أي العمى والبيت.


ترك هو الدنيا فجاءت الدنيا إلى بيته الذي أصبح مزارًا لكبار العلماء والأدباء وطلاب العلم. ألا تقوى أن تقول إن أبا العلاء كان على حق بعدما رأيت هذا الفتح المبين في عالم الفضاء؟! أما قَلَبَ هذا الاكتشاف الفضائي المعتقدات رأسًا على عقب؟! وإذا سألناه ما هو الحق، أتراه يسكت أم يجيب، كما سكت السيد أمام بيلاطس؟! ولكنه يومئ من بعيد قائلًا:. وآخِرًا يبوح بما عنده، وإذا شئته كاملًا فارجع إلى كتابي «زوبعة الدهور»، قال موضحًا رأيه في نهاية النهاية:. وفي موضع آخر يعترف بخلود النفس، ويرى الجسد كباقول حبر فرغ مما فيه، فطرح بين سقط المتاع، ثم يضحك هازئًا كعادته:. وليس أبو العلاء بمخترع مذهب التقمص، فعلى هذه فريق من فلاسفة اليونان ومن عندنا كان جبران على هذا المذهب. وآخِرًا نقول إن أبا العلاء قد عالج جميع القضايا الفكرية وجمعها في «لزومياته» و«فصوله وغاياته»، فكأنه نظر بعين بصيرته فرأى ما لا يرى قبل حدوثه، وهكذا يكون العبقري حقًّا.


هذا لقب عُرف به واشتهر، وهو من المتفوقين في عصره في صناعتي المنظوم والمنثور، وأشهر ما قاله شعرًا هو قصيدته التي تعرف بلامية العجم، تقابل لامية العرب. وكلا الشاعرين، الشنفرى والطغرائي يصوِّر لنا في لاميته أروع صورة لحياته وعصره الذي عاش فيه. وكما تمتاز لامية العرب بالوعورة كذلك تمتاز لامية العجم بالسهولة التي سار الشعر إليها، وكما يفتخر الشنفرى بأسلوب حياته الوعر، جاء الطغرائي يتغنى بالحكمة تغنيًا، ويندب زمنًا كان فيه سيدًا، وظل كذلك حتى قُتل. حكمة الطغرائي بنت الاختبار، ومعانيه مستمدَّة من تجاريبه، كل هذا يبدو لك جليًّا لأول نظرة في لاميته المشهورة، وكان بيت بشار الذي قاله في وصف شعره ينطبق عليها:. شاعر مشهور لم تفارقه السهولة رغم ثقله وتصيده أنواع البديع، وقد شُرح ديوانه الصغير وطُبع في باريس. شرحه النابلسي الذي كان صوفيًّا من طراز ابن الفارض. وقد تفنن الجماعة في تفسيرها حتى يعتقد القارئ أن ناظمها عاشق إلهي، حتى هزئ أحد الشعراء إذ قال يخاطب الصوفيين:. لما كان هذا النوع من النثر من الرسائل والمقامات والأخبار والقصص والسِّيَر مثارًا للخيال ومظهرًا لحركات الوجدان والشعور وإظهار التفوق في براعة القول والحذق في الصناعة اللفظية، اصطبغ العصر وما بعده من العصور بصبغة يغلب فيها تفضيل جانب اللفظ على جانب المعنى، فالتزم فيها السجع القصير الفقرات غالبًا، واستُعملت الأساليب الشعرية في الشرح والاستدلال بالإكثار من الأخيلة والتشبيهات والاستعارات البديعة، وقلَّت المعاني المخترعة، فاضطر الكاتب إلى حل كثير من أبيات الشعر ذوات المعاني الجميلة، وإلى الاقتباس من القرآن والحديث، حتى سمَّى الأدباء هذا النوع من الشعر: المنثور.


وأول من أشاع هذه الطريقة ابن العميد وزير آل بويه، وقلَّده كثير ممن عاصروه وجاءوا بعده، وأعظم نموذج لها مقامات الحريري، كان ابن العميد رأس كتَّاب الشرق، ومع أنه إمام طريقة الشعر المنثور، لم تنحطَّ كتابته في البلاغة كما انحطت كتابة تابعيه في طريقته من المتأخرين، حتى قيل: بُدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد. وتخرَّج على يده الصاحب بن عباد الذي أُولع بالسجع والجناس. ومن أئمة هذه الطريقة بديع الزمان، وأبو بكر الخوارزمي، والصابئ، والحريري. وظلت هذه القيود في الأدب حتى النصف الأخير من القرن التاسع عشر، كانوا يقلدون المقامات والرسائل، حتى جاء أحمد فارس الشدياق وثار عليها في كتابه الفارياق. فارسي الأصل من أهل مدينة قم. كان أبوه كاتبًا بليغًا من كبار كتَّاب الدولة السامانية، فنشأ ابنه مولعًا بالعلوم العقلية واللسانية، فبرع في علم الحكمة والنجوم، ونبغ في الأدب والكتابة. رحل عن أبيه إلى آل بويه، وتقلَّد الأعمال الكثيرة في دولتهم حتى تولى وزارة ركن الدولة — أبو عضد الدولة الشهير — فساس الملك أحسن سياسة، وقلَّد البرامكة ففتح بابه للشعراء والعلماء والفلاسفة، يشاركهم في كل علم إلا الفقه، وظل كذلك حتى مات سنة ٣٦٠.


وُلد سنة ٣٢٦ بطالقان من قزوين، كان أبوه كاتبًا من خيرة كتَّاب آل بويه، تعلَّم العلم والأدب من أبيه، ثم اتصل بابن العميد فلزم صحبته وتولى كتابة خاصته، ثم وزر لمؤيد الدولة من آل بويه، ثم لأخيه فخر الدولة، حتى أصبح له في ملكهما اليد النافذة المطلقة، وظل كذلك حتى مات سنة ٣٨٥. معناها اللغوي محل الإقامة، وهي قصة قصيرة يرويها واحد دائمًا، كما أن بطلها واحد، وهذا البطل شحاذ كثير الحيل، تارة يتعامى، وطورًا يلبس جبة الواعظ وحُلَّة العالم. والعقدة فيها من طراز واحد؛ أي إن الرَّاوية يعرف أن البطل محتال كذاب فيما يدعي. مبدع المقامة هو بديع الزمان الهمذاني، والذين جاءوا بعده له تبع، ولم يجارِهِ إلا الحريري، وهو أصح لغة من البديع. أما الغاية من المقامة فهي إظهار البراعة في الإنشاء أو جمع الألفاظ اللغوية لا القصة، ولكن بديع الزمان وفِّق في بعض مقاماته فجاءت كأقاصيص اليوم. أما المغزى فيفيدنا كيف كانت الكدية والتكالب على جمع المال، وقد كثر المحتالون في ذلك العصر فصوَّرهم البديع متأثرًا بالجاحظ. والذي يعجبني من بديع الزمان خَلْقُه في ذلك الزمان بطلًا سمَّاه بشر بن عوانة، فظل العلماء والأدباء يعتبرونه شخصًا حقيقيًّا، وعدوا قصيدته التي أولها: أفاطم لو شهدت ببطن خبت، من روائع الشعر.


وهذا ما أطلقتُ عليه اسم طلسم الشهيرة. وبقي السر مغطى بقشرة بصلة — كما يقول مثلنا — حتى قام الأستاذ بطرس البستاني ففتش عن آثار أقدام ابن عوانة عبر مجاهل تاريخ الأدب العربي، فلم يظفر بشيء، فبيَّن للناس أن ابن الأثير وقع في الفخ حين قابل بين ابن عوانة والبحتري والمتنبي، ففضَّل ابن عوانة على البحتري؛ لأنه اعتقد أنه السابق إلى صوره ومعانيه في وصف القتال مع الأسد. لقد مر على ابن عوانة ألف سنة وهو ينعم بجلال التاريخ إلى أن هُتك ستره، فبلغ بذلك بديع الزمان قمة الفن حين كذب على الشعراء والمؤرخين، وجازت عليهم كذبته عشرة قرون. بدأ بهذا النوع من الأدب بديع الزمان، وحذا حذوه الحريري وغيره، ولا عيب في هذه القصص الصغيرة، إلا أنها ترمي غالبًا إلى الاحتيال وطلب الرزق عن طريق النصب.


هي مفيدة بأسلوبها وحفظها ألفاظًا كثيرة، إلا أنها غير شريفة المبادئ، لا تعلم عزة النفس.



لم يكن انتقال الشعر من البداوة إلى الحضارة مرهونًا بانتقال الخلافة من الأُمويين إلى العباسيين، بل أخذ الشعر يتحضر في صدر الإسلام على أثر الفتوح الكثيرة، وملابسة العرب للأعاجم، وانتقال الخلافة إلى دمشق، وفيها القصور والجنائن والأنهار، وفيها أثر كبير من حضارة البيزنطيين، ولكن العصر الأموي كان عصر حروب وفتن، فلم يهدأ هادئه، ولم يطل عهده، فيبلغ أهلوه غايتهم من الترف والعمران، أضف إلى ذلك أنَّ خلفاء بني أمية كانوا على تحضرهم ينزعون إلى الحياة البدوية، ويؤثرون العرب الخلَّص على غيرهم من الشعوب، ويرتاحون إلى أساليب الجاهليين وطرقهم، فما أتيح للشعر أن يبلغ الطور الذي بلغه بعد أن أُديل العباسيون من الأمويين، وبنيت بغداد وجعلت عاصمة الخلافة، واشتد اختلاط العرب بالأعاجم، وساد النفوذ الفارسي، وامتلأت خزائن الدولة بما أفاء الله على المسلمين من أموال الفرس والروم، فانهل من فيضها على الناس؛ فوفَّرت لهم أسباب الرزق، فانبسطت حياتهم فأُترفوا وأمعنوا في الترف.


وكان للشعراء القسط الأوفر من هذا العيش الخضيل، فإنَّ الخلفاء بعد أن استتب لهم الأمر، ودانت لهم الأعداء، وخضدوا شوكة الأحزاب، انصرفوا إلى الحياة يتذوقون نعيمها، والشعر من نعيم الحياة؛ فقربوا الشعراء وجعلوهم ندماءهم، فأيسر الشعراء واتسعت ذات يدهم، فرفهُوا وأسرفوا في اللذة؛ فرقت طباعهم، ولانت نفوسهم، ورقَّ شعرهم، ولانت ألفاظه، وقلَّ استعمال الغريب فيه، والشعر مرآة النفس؛ فإذا كانت النفس قاسية خشنة خرجت الألفاظ وحشية صلبة، وإذا كانت لطيفة ناعمة خرجت الألفاظ سهلة لينة. ولم يكن للشعراء الموالي حظ في صدر الإسلام، فلم يرتفع شأنهم، ولم يكثر عددهم. وأمَّا في هذا العصر فقد تكاثروا ونموا، واشتد خطرهم ونبغت منهم طائفة تقلدت زعامة الشعر، واعترف لهم الشعراء. وقد علمنا أنَّهم يكرهون العرب؛ فأنفوا أن يتشبهوا بهم ويقلدوهم في أساليبهم، وكان لهم من حضارتهم ومن عنصرهم العجمي ما يبعدهم من وحشي اللفظ وبدوي المعنى، فكان لهم الفضل في تجدد الألفاظ، وفي تجدد المعاني.


فأما التجدد اللفظي فلم يقتصر على تسهيل الألفاظ وتليينها، بل تعداهما إلى تزيينها وتنميقها، فقد عُنِيَ الشاعر العباسي بتوشيتها كما عني بتوشية ثوبه وداره وماعونه؛ فأكثر من الاستعارات والتشابيه والتزمها التزامًا. وافتنَّ في أنواع البديع وتعمده تعمدًا، وأول من تَكَلَّفَهُ وخرج به عن عفو الخاطر بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ، فمُسْلِمُ بْنُ الْوَلِيدُ، فَأَبُو نُوَاس، فَأَبُو تَمَّام. والحياة العباسية كانت تدعو إلى هذا الوشي والتنميق من جميع نواحيها، فمن انغماس في الرخاء والترف إلى تَخَلُّقٍ بأخلاق فارسية يلائمها الافتنان والتصنع لبعدها من السذاجة والفطرة.


ودخل على لغة الشعر ألفاظ غريبة دعت إليها الحاجة، كالألفاظ العلمية والفلسفية وغيرها؛ مما يدل على أشياء حديثة العهد عند العرب، ودخل عليها أيضًا ألفاظ استعيرت من صلب اللغة لمعانٍ مستحدثة خلقتها الحضارة الجديدة. وأمَّا أوزان الشعر وقوافيه فلم تتجدد تجددًا يذكر، ولكن الشعراء أخذوا يُعْنَوْنَ بالنظم على الأوزان الرشيقة التي تصلح للغناء، وأكثر ما كانوا يصطنعونها في الغزل والمجون والخمريات. وعلى الجملة فإنَّ التجدد اللفظي ظهر ظهورًا جليًّا في شعر العباسيين، ولم يكن دونه التجدد المعنوي. واتسع عليهم باب الخيال لاتساع سبل اللهو ووسائل العمران، فمن قصور شواهق وحدائق نواضر إلى نهور دوافق وسفائن مواخر، فأصبحوا إذا عمدوا إلى التشبيه استمدوا أكثره من البساتين والحلى والرياش والطيوب، فذاع عندهم تشبيه الخَدِّ بالتفاح والورد والياسمين، والبنان بالعناب، والعيون بالنرجس، والخمر بالياقوت والذهب، والكأس باللؤلؤ، وقوس السحاب بأذيال مصبغة، والهلال بين الغيوم بزورق من فضة عليه حمولة من عنبر، وغير ذلك من ألوان الحضارة الجديدة.


على أنَّ هذا الخيال كان يرافقه العقل، فما يدعه ينطلق على هواه، كما كان ينطلق خيال الشاعر الجاهلي والإسلامي، بل عُنِيَ بتهذيبه وتنظيمه؛ فنشأ عن ذلك اتساق في الأفكار، فأصبح الشاعر إذا تغزل وأراد الانتقال إلى المدح لا يثب إليه وثبًا بل يمد جسرًا يعبر عليه، وهذا ما يسمونه حسن التخلص. ولا ريب في أنَّ نقل الفلسفة والمنطق كان أثره بليغًا في تثقيف أفكار الشعراء وتنسيق خيالاتهم، وأثَّر فيهم نقل العلوم؛ فاستعملوا الأغراض العلمية في شعرهم ولم تكن معروفة من قبل، كقصيدة صَفْوَانَ الْأَنْصَارِيِّ التي يصف بها معادن الأرض رادًّا على بشار بعد أن مدح بشار إبليس، وزعم أنَّ النار خير من الأرض، وحسبك أن تقرأ منها هذين البيتين لتعلم مبلغ تأثير العلوم الدخيلة في الشعر العباسي، قال:.


ولكن هذا التجدد في اللفظ والمعنى لم يشمل أبناء العصر كلهم، بل كان هناك جماعة المحافظين على القديم، يدافعون عنه دفاع المستميت، ويناهضون الجديد بجميع قواهم، حتى إنَّ الشعراء المجددين كانوا يتكلفون الأساليب القديمة بعض الأحيان إرضاءً لهؤلاء. وغير طبيعي أن يحدث شيء جديد مكان شيء قديم دون أن يدافع هذا القديم عن نفسه؛ سنة تنازع البقاء، ويستوي في ذلك الممالك والقبائل والأديان والمعايش والأخلاق والعادات والأزياء والعلم والأدب «شعره ونثره»، فقد أغار الأدب الجديد على الأدب القديم في العصر العباسي الأول؛ فثبت له هذا، وأعد ما لديه من قوى الدفاع ليرد عنه غائلة غازيه. ومن المعقول أن يكون للأدب القديم أنصار وأتباع يقاومون دعاة المذهب الجديد؛ فإنَّ جماعة العلماء والرواة وذوي السلطان كانوا يستغربون هذا الجديد، وينعونه على أصحابه، وربما أنف الرواة من روايته والاستشهاد به، ولو جاء آية في الإبداع. وقد أخذ يظهر كره الجديد والدفاع عن القديم في الصدر الثاني للإسلام، فإنَّ بعض الرواة كانوا يعدون شعراء بني أُمَيَّةَ مولّدين، بالإضافة إلى شعراء الجاهلية والصدر الأول، ويرفضون الاحتجاج بأقوالهم، وأقدم أصحاب هذا المذهب أبو عمرو بن العلاء، وكان لا يرى خيرًا إلَّا في الشعر الجاهلي والمخضرم، فإذا سئل عن المولّدين قال: «ما كان مِنْ حسن فقد سُبِقُوا إليه، وما كان من قبيح فهو من عندهم.


فيُسْتَدَلُّ من ذلك أنَّ العلماء كانوا لا ينكرون الجمال على الشعر المولَّد، ولكن يعتقدون أنَّه مستمد من الشعر القديم، ويأبون الاستشهاد به؛ لقلة ثقتهم بلغة المولّدين من أهل عصرهم. وقد يستشهد بعضهم مكرهًا بشعر مولَّد كما فعل سِيبَوَيْه والأَخْفَش، فإنهما لم يحتجَّا بشعر بشار إلَّا بعد أن هددهما بالهجاء. ولأبي نُوَاس مداعبات كثيرة مع أنصار القديم، فقد كان يستهزئ منهم وهم ينكرون عليه شذوذه عن مذهبهم. ولطالما تعرض الشعراء المجددون للضرب والطرد والحبس؛ لأنَّ الخلفاء العباسيين كانوا يؤثرون مسايرة المحافظين على القديم؛ لما يتعلق بهذا القديم من تقاليد دينية وروابط عصبية، وربما اتهم الشاعر المجدد بالزندقة فلا ينجو من العقاب؛ لذلك كان يعتصم بالتُّقْيَةِ بعض الأحيان، فيتحدى مذهب الأقدمين ولا سيما في المدح والرثاء، فيقف على الطلول ويبكي الدِّمْن، ويصف ناقته، ويكثر من الغريب؛ ليرضي ممدوحه أو أهل مرثيِّه، وليظهر لأصحاب اللُّغة أنَّه خالط العرب الصرحاء وأخذ عنهم لغاتهم واصطلاحاتهم، حتى استوى لسانه وسلم من العثار.


فإذا أنت درست شعر هذا العصر رأيته يختلف في تجدده ومحافظته باختلاف فنونه وأغراضه، وأكثر ما يظهر لك الجديد من الشعر في الغزل والمجون، والخمر واللهو، ووصف القصور والحدائق، والطبيعة والرياض؛ لأنَّ الشعراء كانوا يصورون في هذه الفنون عواطفهم وأخلاقهم، ويصورون عادات عصرهم وأخلاق أبنائه، وما فيه من ترف وخلاعة، وما تقع عليه عيونهم من جمال مطبوع وجمال مصنوع. وأمَّا في وصفهم القفار والطلول والإبل فيصورون عصرًا يختلف كثيرًا عن عصرهم، فهم في تجددهم صادقون ينطقون بما يرون ويحسون، وهم في تقليدهم كاذبون مسيَّرون. تعددت أغراض الشعر في هذا العصر وتنوعت بتنوع أسباب الحضارة، ولكنها لم تكن كلها في مستوى واحد؛ فمنها ما كان قويًّا فَضَعُفَ، ومنها ما كان ضعيفًا فَقَوِيَ، وأُهمل بعض الفنون، وبقي بعضها على حاله، واسْتُحْدِثَتْ فنون أخرى لم تكن معروفة في الشعر القديم، ولضعف هذه الأغراض وقوتها وإهمالها واستنباطها أسباب نأتي على ذكرها:.


شاع هذا الفن في الصدر الأول للإسلام بين شعراء النبي وشعراء المشركين، ثم ازدهر في الصدر الثاني يوم كانت الأحزاب السياسية تتطاحن، وبنو أمية يصطنعون الشعراء للدفاع عن حقوقهم، ولكنه لم يلبث أن أخذ يتضاءل بعد قيام الدولة العباسية، واعتمادها على السيف في قهر أعدائها؛ فتفككت عُرَى الأحزاب، فتلاشى بعضها وضعف خطر الآخر منها، كالعَلَوِيِّين والخَوَارِج؛ لانقسامهم وكثرة ما نالهم من التقتيل. وكان أكثر الشعراء النابهين من الموالي، وهؤلاء لا عصبية لهم في القبائل العربية؛ فيكون لشعرهم السياسي تأثير بليغ كتأثير شعراء الجاهلية والإسلام؛ لأنَّ أولئك كان لهم منزلة رفيعة في نفوس القبائل التي ينتسبون إليها، وفي نفوس القبائل التي تناصبهم العداء، فبنو أُمَيَّةَ لم يصطنعوا الأخطل شاعرًا سياسيًّا إلا لأنَّ بني تَغْلِبَ كانت تقوم وتقعد لشعره، ولأنَّ القبائل المعادية كانت تتضور من هجائه المقذع الأليم، فهيهات أن يكون لشاعر من الموالي مثل هذا التأثير مهما علا قدره في دولة القريض.


وأشهر شعراء القصر العباسي: مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وأَبُو الْعَتَاهِيَةِ، وأَبُو نُوَاسَ، وأَبُو تَمَّامٍ. وأشهر شعراء الشيعة: السَّيِّدُ الْحِمْيَرِيُّ، ودِعْبِل، ودِيكُ الْجِنِّ. رأينا في الكتاب الأول كيف نهض الغزل في صدر الإسلام بنوعيه «البدوي العفيف، والحضري المتهتك». فأما الأول فلم يبق له حظٌّ كبير في هذا العصر؛ لشيوع الخلاعة والفسق في جميع الحواضر والأمصار، ولأنَّ شعراء البادية كانوا يتهافتون على بَغْدَادَ متكسبين؛ فتستهويهم حضارتها، ورخاء عيشها، فتطيب لهم السكنى فيها؛ فما يلبثون أن يدب فيهم الفساد، فيتخلقوا بأخلاق أهلها. وأمَّا الثاني فقد ازداد شيوعًا وكثر أتباعه، وولدوا منه نوعًا جديدًا صوروا به مبلغ ما انتهى إليه الفساد عندهم، وهذا النوع هو الذي يسمونه غزل المذكر، وكان سبب ظهوره اختلاط العرب بالأعاجم المترفين، وكثرة الرقيق من غلمان الترك والدَّيْلَم والروم، وربما اصطنع الشعراء غزل المذكر في الإناث تلطفًا، وتكنية أو مجاراة للوزن والقافية. وكان للمرأة العجمية البيضاء نصيبٌ من الرق، وكانت على جانب من العلم والأدب، تقرض الشعر وتحسن الغناء، ولا تتحرج من مجالسة الرجال ومنادمتهم؛ فتحوَّل الغزل إليها بعد أن كان محصورًا في المرأة العربية، وكثرت مجالس اللهو، فكانت تعقد في دور الخلفاء والأمراء، كما تعقد في الحوانيت والمنازل الخاصة.


وأفرط الشعراء في المجون لاتساع رزقهم، ووَفْرَةِ أسباب لهوهم؛ فخلعوا رداء الحياء، وأرادوا التغزل فتعهَّروا، وأسرفوا في تعهرهم؛ فكان شعرهم صورة لتلك البيئة المريضة الأخلاق. وكان الغزل في الجاهلية والإسلام تمازجه الأنفة والرصانة، فاكتسى في العباسيين ثوب العبودية والمذلة؛ فصار الشاعر لا يطيب له إلا أن يفرش خديه موطئًا لقدمي حبيبه، وإلا أن يدعوه مولاه وسيده ومالك رقه، والإسراف في اللَّذة يولِّد الذل والعبودية في نفس طالبها؛ لأنَّ النزول بالحب من الدرج الأعلى إلى الدرك الأسفل يميت الأنفة ويبعث الخنوع، ولا نرى حاجة إلى التبسط في الكلام على الغزل الذي كانوا يوطئون به قصائد المدح؛ فالتكلف ظاهر على أكثره؛ لأنَّ أصحابه كانوا ينظمونه ترسمًا للأقدمين، لا اندفاعًا مع الشعور الصادق. ولا غَرْوَ أن يكون للخمرة سهمٌ وافرٌ من هذه الحياة الأثيمة، وهي آلة الإثم؛ فتذيع بين الناس ويذيع معها الشعر الخمري بعد أن كاد يتلاشى في صدر الإسلام، ولولا الأخطل والوليد بن يزيد وبعض الشعراء المغمورين لما كان له شأن. وزاد الناسَ إقبالًا عليها إقدامُ بعضِ الخلفاء على شربها، فقد كانوا يقيمون مجالس اللهو في قصورهم؛ فتغني القيان لهم، ويدور الغلمان عليهم بالكئوس، فيشربون ويلهون ويعبثون، وكانت بَغْدَادُ وما جاورها من القرى حافلةً بالحوانيت والدساكر، فكان الشعراء يقصدونها للسكر واللهو، فافتنُّوا في وصف الخمرة وكئوسها، وتأثيرها في نفس شاربها، ووصف السكارى وعربدتهم، والساقي والساقية والقِينَة والنديم؛ فأبدعوا في هذا الفن أيَّما إبداع، وأحدثوا فيه أشياء جديدة لم يسبقوا إليها، ونستطيع القول إنَّ الشعر الخمريَّ بلغ غاية الجمال في هذا العصر لو لم يَشُبْهُ شيءٌ كثير من التعهُّر والمجون.


كانت بَغْدَادُ موردًا عذبًا لطوائف الشعراء، فأقبلوا عليها ينهلون من فيضها، فما ينضب معينه ولا يرتوون؛ فتكاثر عددهم، وأخذوا يتنافسون في مدح الخلفاء والأمراء، مستدرين أكفهم، مبالغين في مدحهم والزلفى إليهم، فأصبح الغلو ميزة خاصة لهذا النوع من الشعر؛ لأنَّه جعل آلة للتكسب، ولأنَّ أولي الأمر تبدلت أذواقهم بتبدل البيئة؛ فخرجوا عن السذاجة الفطرية التي كان يتحلى بها الأوائل، واستهوتهم أبهة الملك وعزة السلطان، وهزتهم الحضارة الفارسية بما فيها من صور وألوان، فأصبحوا وفي نفوسهم من الكبر والعتو ما يحبب إليهم مغالاة الشعراء في مديحهم، وصاروا يرتاحون إلى كاذب الأقوال، كما كان أسلافهم يطمئنون إلى صادقها. ولم يربأ الشعراء بأنفسهم عن الكذب والتملق؛ فماتت أنفتهم، وأراقوا ماء وجوههم، وعفروا جباههم على الأعتاب، وقلَّ من صان نفسه عن الزلفى والتذلل. ظل الهجاء على ما كان عليه في صدر الإسلام من فحش وإقذاع، وكثرت مهاجاة الشعراء بعضهم لبعض، ولم يتنكبوا عن هجاء الخلفاء فِعْلَ بشار ودعبل، وجعلوا الهجو كالمدح آلة للتكسب، يهددون به من يمدحونه إذا أخلفهم غيثه أو أقل دره؛ فعرضوا أنفسهم للحبس والضرب والنفي، وللموت أحيانًا.


اكتسب الرثاء العاطفي رقة وسهولة؛ فزاد تأثيره في النفوس. وأمَّا الرثاء المتكلف فكان كالمدح مشحونًا بالغلو والكذب، ومما ينبغي ذكره أنَّ الشعراء أكثروا من توطئة مراثيهم بالزهد والمواعظ، وذم الدنيا والتذمر على الدهر. من المعقول أن يضعف هذا النوع بعد أن انصرف الشاعر إلى اللهو والمجون والتزلُّف، وبعد أن فقد عصبيته وسيادته ونخوته وفروسيته، وخصوصًا أنَّ أكثر الشعراء من الموالي، وهم في جملتهم فرسان قصف لا فرسان حروب. لم يُعرف الزهد على حقيقته إلَّا في هذا العصر بعد أن ترجمت الحكمة الفارسية الهندية، واطَّلع عليها الكتاب والشعراء، وكان أبو العَتَاهِيَةِ أولَ شاعرٍ تأثر بها فأظهرها في شعره، وافتنَّ في الزهد فأبدع بعد حياة قضاها بالعبث والمجون، وجاراه كثيرٌ من الشعراء فأجادوا، ولكنهم لم يبلغوا غايته.


والحكم أيضًا كان لها شأن يذكر، وارتفعت بعد نقل الفلسفة اليونانية، فاصطنعها الشعراء ومنهم من أكثر منها، وطبع بها شعره كأبي تَمَّام. وتختلف الحكم في هذا العصر عنها في الجاهلية والإسلام أنَّها أصبحت قائمة على مذاهب فلسفية، وأدلة عقلية، وتفكير صحيح، ولم تبق محصورة فيما توحيه للشعراء تجارب الأيام وحوادثها. وعُنِيَ الشعراء بوصف الصيد والكلاب والجوارح، واتخذوا لذلك بحر الرجز؛ لسهولته ولينه وحسن مؤاتاته في الوصف، وكان هذا الفن قد ضعف في صدر الإسلام؛ لاشتغال الناس بالحروب عن الصيد واللهو، فلما قامت الدولة العباسية وتوطدت أركانها، واطمأنَّ الخلفاء إلى ملكهم، ووفرت لهم أسباب اللهو والترف، أُولعوا بالصيد، فصرفوا له وقتًا غير قليل من حياتهم الخاصة، وأُولع الناس به اقتداء بملوكهم؛ فأُولع الشعراء بوصفه، فاستعاد هذا الفن سابق عِزِّهِ في الجاهلية، ولكن الشعراء العباسيين كانوا متأثرين بحضارة الفرس وما فيها من جديد، فأمعنوا في وصف الكلاب والجوارح والديك والفهد، بخلاف الشاعر الجاهلي فإنَّه كان يجعل همته في وصف جواده الذي ينطلق به في أثر الحمر الوحشية.


لن تجد في هذا الشعر ما يروقك؛ لأنَّه غثٌّ بارد، اصطنعه أصحابه لنظم أنواع شتى من العلوم؛ تسهيلًا لحفظها بعد أن أصبح الإقبال على العلم عظيمًا. والناظم في هذا الفن لا يسمو بنفسه إلى الخلق والإبداع، فالأفكار ماثلة أمامه فما عليه إلَّا أن يجمعها في كلام موزون مقفًّى، خالٍ من الروعة والرونق، وليس في هذا كبير أمر على من يحسن النظم. وأول من طلب هذا الفن أبو الفضل سهل بن نُوبَخْت من خدم المنصور والمهدي، فإنَّه نظم كتاب كليلة ودمنة، ثم تلاه أبان بن عبد الحميد اللاحقي شاعر البرامكة، فنظم فنونًا مختلفة من العلوم، منها كتاب كليلة ودمنة، قدمه لآل برمك ليحفظوه، فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار، وأعطاه الفضل بن يحيى خمسة آلاف دينار، ولم يعطه جعفر شيئًا وقال له: «يكفيك أن أحفظه فأكون راويتك.


وعلى الجملة فقد تعددت أغراض الشعر المولَّد، وخصبت الأفكار بالمعاني الطريفة، واتسع باب الوصف وتعددت سبله، فبالغ الشعراء في التشبيب ووصف الخمرة والصيد والأخلاق والخصال والعادات، وهم وإن اقتصدوا في وصف القفار والطلول والإبل والوحش بعامل التطور الاجتماعي، لقد استعاضوا عنها وصف القصور وزخرفها، والبساتين ومياهها، والطبيعة ورياضها. ومما ينبغي ذكره أنَّ هذا الشعر على تعدد أغراضه لم يجاوز النوع الغنائي، ونصرف النظر عن الفن التعليمي؛ لأنَّه خارج عن صفة الشعر الحقيقية، فما نعد نظم كليلة ودمنة وغيرها من النوع القصصي؛ لضعف الميزة الأدبية فيها، وخلوها من الروعة والطلاوة، ولا نعد الحوادث الصغيرة التي يرويها الشاعر بقالب قصصي؛ لأنَّنا نريد الملاحم الطويلة التامة كالإلياذة والأوديسة وسواهما. ونرى أنَّ خلو الشعر من هذا النوع يرجع أولًا: إلى جهل العرب للأدب اليوناني؛ لأنَّهم لم ينقلوه كما نقلوا العلوم والفلسفة. ثانيًا: إلى أنَّ الشعراء لم يهتموا بنظم قصص طويلة؛ لانصرافهم إلى التكسب من أقرب الطرق، والملاحم تقتضي وقتًا طويلًا وربما كان كسبها قليلًا؛ لأنَّ الأمراء تعودوا ألَّا يجيزوا الشعراء إلَّا على المدح.


وكذلك النوع التمثيلي ظلَّ مفقودًا بتأثير هذين العاملين، ثم لأنَّ المجتمع الإسلامي في العصر العباسي — على تمتعه بحرية الفكر والدين — ما كان يسمح للمرأة بأن تمثل مع الرجل في ملأٍ من الناس، والمرأة عضو لا غنى عنه لانتشار هذا الفن، أضف إلى ذلك أنَّ التمثيل لا يظهر إلَّا بعد أن ينضج النوع الغنائي، وتتقدم الفلسفة والعلوم، وتوضع النظم السياسية والاجتماعية، وهو ينتشر غالبًا في الحكومات الديمقراطية أكثر مما ينتشر في حكومة الفرد التي تبسط يدها عليه وتقيده بمشيئتها المطلقة؛ لأنَّه يتناول العبر التاريخية والمسائل الاجتماعية، ويبين مغبة الإثم ونتيجة الخير؛ مما لا يخلو من أذاة ذوي السلطان المستبدين بأموال الشعب وأعناقه، ولو قدر له الظهور في بني العباس لما كان الحكم الإسلامي المصطبغ بالدين ليرضى عنه وهو عندهم تزوير للأشخاص. لم تكن للشاعر المولد تلك المنزلة التي تبوأها زميله في الجاهلية وصدر الإسلام يوم كان يدافع عن قبيلته، وينشر مخازي أعدائها، أو يخفض ببيت من الشعر شأن قبيلة نابهة، ويرفع ببيت قدر قبيلة خاملة، أو يؤيد حزبه السياسي بالرد على خصومه، وكان السبب في تجرده عن هذه الخصائص ضعف العصبية في القبائل لنفوذ الموالي، واختلاط العرب بهم، ونشوء شعب جديد غير صافي العروبة، وتلاشي الأحزاب وانحلالها، ثم إنَّ الخلفاء العباسيين اعتمدوا في تأييد سلطانهم على السيف دون الشعر.


على أنَّ الشاعر المولّد استبدل من المنزلة السابقة منزلة أخرى، وهي أنَّه صار نديمَ الخليفة على طعامه وشرابه، وسميره في لياليه الساهرة، ورفيقه في ملاهيه ومتنزهاته؛ فأصبح الشعر للتفكهة واللذة، يرغب فيه أولو الأمر كلفًا بالأدب، أو حبًّا للهو والعبث. لذلك انحطت منزلة الشعراء عن ذي قبل، وفقدوا سيادتهم، وشيئًا كثيرًا من نفوذهم وتأثيرهم، وأصبحوا كأداة اللهو، يقبل عليها المتلهي مدة ثم يضجر منها فيهملها أو يحطمها؛ فرُبَّ شاعرٍ كان ذا حظوة عند الخليفة ثم أمسى طريدًا مجفوًّا، أو شاعر بات ليلته يسامر الأمير فما طلع عليه الصباح إلَّا كان السجن مأواه. ولكن بقي للشعراء دالة على الملوك أكثر من غيرهم؛ لما للشعر من التأثير في النفوس، ثم لما للمدح — خصوصًا — من سحر يفتن أَلْبَابَ الأمراء. ونحن نشرع الآن بدرس أشهرهم، مبتدئين بالمخضرمين منهم، وهم الذين أدركوا الدولتين «الأموية والعباسية»، ثم ننتقل إلى من جاء بعدهم، ونفتتح الكلام ببَشَّارٍ. نشأ بشار في بني عقيل نشأة عربية خالصة، فاستوى لسانه على الكلام الفصيح، لا تشوبه لكنة ولا طُمْطُمانية، ولما أيفع أبدى فسلم من الخطأ.


وقال بشار الشعر وهو ابن عشر سنين، ونزعت نفسه إلى الهجاء؛ فلقي الناسُ منه شرًّا، ولم يحجم عن التعرض لجرير، فاستصغره جرير ولم يردَّ عليه. وكان إذا هجا قومًا جاءوا إلى أبيه فشكوه، فيضربه ضربًا شديدًا، فكانت أمه تقول: «كم تضرب هذا الصبي الضرير، أما ترحمه! فلما عاودوه شكواه قال لهم برد ما قاله بشار؛ فانصرفوا وهم يقولون: «فِقْهُ بُرْدٍ أَغْيَظُ لَنَا مِنْ شِعْرِ بَشَّارٍ. فيتبين لنا من ذلك أنَّ بشارًا طُبِعَ على الشعر منذ حداثته، وطُبِعَ معه على الهجاء والشر وحب التكسب والسخر بالدين والناس، فقد عَرَفَ بذكائه الفطري أنَّ والده سَاذَجٌ جاهل، فعبث به لينجو من عقابه، ولم يتحوب من العبث بآية القرآن؛ فأوَّلها إلى غير معناها، وجعل الأعمى بريئًا من الإثم إذا اقترفه، والآية لا تقصد إلَّا إعفاءه من التكاليف التي لا قِبَلَ له بها كالجهاد.


أدرك بشار بني أُمَيَّةَ وبني العباس؛ فهو من مخضرمي شعراء الدولتين، ويقول صاحب الأغاني: «إنَّه شُهِرَ في العصرين، ومدح وهجا، وأخذ سَنِيَّ الجوائز. وروي أنَّ الوليد بن يزيد كان يطرب لشعر قاله بشار متغزلًا، ويرويه ويبكي، وهو الذي أوله: «أيها الساقيان صُبَّا شرابي. ولعل أول رحلة تجَشَّمَها كانت إلى حَرَّانَ، فوفد إلى سليمان بن هشام بن عبد الملك فمدحه بقصيدة بائية، وكان سليمان بخيلًا فلم يعطه شيئًا، وقيل: بل أعطاه خمسة آلاف درهم؛ فاستقلَّها وردَّها عليه، وخرج من عنده ساخطًا وهجاه، وربما كانت له وفادة على مروان بن محمد فلم يعطه، أو أنَّ مروان وعده بشيء وأخلف وعده؛ فهجاه بأبيات لم يصل إلينا منها غير بيت واحد يقول فيه:. وجملة القول أنَّ بشارًا لم يحظ عند خلفاء بني أمية، ولم يجشم نفسه دلج السرى إليهم، وإنما لبث في البصرة يمدح الولاة والقواد، ويشبب بالنساء، وله فيهنَّ عدة صواحب أشهرهن عَبْدَة أو عُبَيْدَة. كان بشار مبعدًا عن البصرة لما انتقلت الخلافة إلى بني العباس، ومات السفاح ولم يتصل به شاعرنا، ولا تمكن من العودة إلى البصرة، وما كاد يُستخلف أبو جعفر المنصور حتى هبَّ الحزب العلوي من رقدته يطالب بالإمامة بعد أن رضي بالصمت على عهد السفاح؛ لأنَّ السفاح قرب الطالبيين وأنعم عليهم وأحسن مصانعتهم، وأمَّا أبو جعفر فكان بخيلًا لا يدر دره، وعاتيًا ظلَّامًا يضطهدهم ويسيء معاملتهم، فخرج عليه الأخوان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي، فثار محمد في المدينة فبايعه أهلها، وأفتى بصحة البيعة الإمام مالك بن أنس، وثار إبراهيم بالبصرة، وكان بشار منفيًّا عنها، فأرسل إليه من الكوفة بقصيدته الميمية الشهيرة يحرضه بها على المنصور، ويمدحه ويشير عليه، ولكن الأخوين لم يوفقا في ثورتهما، وظفر بهما المنصور وقتلهما.


ولما ولي المهدي الخلافة اتصل به بشار اتصالًا وثيقًا، وأخذ يفد إليه ويأخذ جوائزه، وكان شعره قد طار وتناقله الناس، وكان المهدي شديد الحب للنساء غيورًا عليهن، فبلغته أبيات لبشار فيها مجون وتعهر، فلما قدم عليه استنشده الشعر فأنشده إياه، فغضب الخليفة وقال: «ويلك أتحض الناس على الفجور، وتقذف المحصنات المخبآت! والله لئن قلت بعد هذا بيتًا واحدًا في نسيب لآتين على روحك. فلما ألحَّ على بشار في ترك الغزل، شرع يمدحه ويقول إنه قد ترك الغزل وودع الغواني، ثم يأخذ في قص حوادثه الماضية، فيتأسف عليها ويصف النساء اللواتي صاحبهن، فلا يخلو كلامه من الغزل، ولم يكن خبثه في هذا الأسلوب ليخفى على المهدي؛ فأظهر له جفوة، وحبس عنه عطاياه، فكان يمدحه فلا يحظى منه بشيء ولو جعل مدحه بغير تشبيب. قال الأصمعي: «كان بشار ضخمًا، عظيم الخلق والوجه، مجدورًا، طويلًا، جاحظ المقلتين، قد تغشاهما لحم أحمر؛ فكان أقبح الناس عمى، وأفظعه منظرًا، وكان إذا أراد أن ينشد صفق بيديه، وتنحنح وبصق عن يمينه وشماله، وكان أشد الناس تبرمًا بالناس، وكان يقول: «الحمد لله الذي ذهب ببصري لئلا أرى من أبغض».


وكان فاسقًا شديد التعهر، محبًّا للهو، مدمنًا للخمرة، يلتمس اللذة ويجدُّ في طلبها، ويهوى النساء لأجلها، لا شغفًا بالجمال وهو لا يراه، ولم يخلص في حبه لامرأة؛ لأنَّ عاطفته الحيوانية كانت تحمله على الإسراف في الاستمتاع وطلب الجديد منه؛ فيستخدم شعره في إفساد النساء، وحضهن على الفحش؛ ليتاح له التنقل من صاحبة إلى صاحبة. وكان متكبرًا كثير الاعتداد بنفسه، لا يرى فوقه شاعرًا ولا عالمًا، وتكبره جعله شديد الافتخار بنسبه حتى لا يجد له معادلًا غير قريش وكسرى، وجعله يشبب بجمال صورته على ما فيها من دمامة وقبح فيقول:. وهذا الكبر ولَّد فيه احتقارًا للناس، كما ولَّد فيه العمى كرهًا لهم؛ فكان شديد النقمة عليهم لتمتعهم بالنظر دونه وهو يرى أنَّه خيرهم، وكل ذي عاهة جبار، وبغضه للناس واحتقاره لهم جعلاه كثير التهكم بهم، قليل الأدب في مجالستهم. والسخرية صفة لازمة لبشار، فإنَّه يستهزئ بكل شيء ويسخر من كل شيء، وتهكمه جارح مؤلم، وقد يبلغ به حد القحة فما يستحيي أن يتنادر على خال الخليفة وهو في حضرته.


قال أبو الفرج: دخل يزيد بن منصور الحميري على المهدي، وبشار بين يديه ينشده قصيدة امتدحه بها، فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد بن منصور الحميري وكانت فيه غفلة، فقال له: «يا شيخ ما صناعتك؟» فقال: «أثقب اللؤلؤ. أتتنادر على خالي؟! فهذا التهكم وإن يكن مضحكًا فهو حاد جارح لما فيه من لؤم ونكاية، ولا يخلو من وقاحة لصدوره عن شاعر جاء يمدح الخليفة متكسبًا، فشرع يهزأ بخاله في حضرته. وكان إعجابه بنفسه يدفعه إلى أن يربأ بها عن مهاجاة سفلة الناس؛ لئلا يجعل منزلته في منزلتهم، وكثيرًا ما أعرض عن جواب لئيم تحرش به، وكان يقطع لسان أبي الشمقمق الشاعر بمائتي درهم في كل سنة؛ مخافة أن يهجوه وهو لا يستطيع الرد عليه؛ لأنَّه شاعر سخيف يروي شعره الصبيان. وكان كريمًا متلافًا، يكسب كثيرًا وينفق كثيرًا، شديد الفخر بكرمه فما يأنف أن يشكو ضيق ذات يده لكثرة الإنفاق، وإذا شكا وسأل ألحَّ في المسألة، ولكن على كبر وعتو وتهديد.


وهو على بغضه للناس يحب أبناءه ويرأف بهم، وقد مات له ولد فجزع عليه جزعًا شديدًا، ويحب إخوته ويعطف عليهم، وكان له أخوان قصَّابان؛ أحدهما يقال له بشر والآخر بشير، فكانا يستعيران ثيابه فيوسخانها، وينتنان ريحها، فأراد منعهما فلم يمتنعا، فإذا أعياه الأمر خرج إلى الناس في تلك الثياب على نتنها ووسخها، فيقال له: «ما هذا يا أبا معاذ؟» فيقول: «هذه ثمرة صلة الرحم. ويحب أصدقاءه الخلعاء ويبرهم، ويحفظ لهم الوداد بعد موتهم فيرثيهم ويتلهف عليهم، ولعله لم يخلص في حبه إلا لأبنائه وإخوته وندمائه. وكان إلى ذلك حادَّ الذهن، شديد الذكاء، نيِّر البصيرة، سريع التنبه، دقيق الحس، ذرب اللسان، حاضر البديهة. كان بشار شعوبيًّا متعصبًا للفرس، ينكر الولاء ويتبرأ منه، ويحض الموالي على رفضه، ولكنه كان مع ذلك يفتخر ببني عُقيل وبقيس عيلان، ويدافع عنهم ويهجو أعداءهم، فإذا انتسب إلى الفرس جعل أسرته في مستوى أسرة كسرى:.


وسأله المهدي يومًا: «فيمن تعتد يا بشار؟» فقال: «أما اللسان والزي فعربيان، وأما الأصل فعجمي» وأنشد:. كان بشار عالمًا فقيهًا متكلمًا، ولولا زندقته لعد من كبار أئمة الدين، وعرف بطول باعه في معرفة الغريب والوقوف على أساليب العرب الصرحاء، وبنقد الشعر وتمييز صحيحه من منحوله، وصدق ظنه في تقدير جوائزه؛ فقد كان يزنه بمعيار تأثيره في نفس الممدوح، وموقعه من سياسته وهواه. قيل: إنَّ أكثر الناس شعرًا في الجاهلية والإسلام ثلاثة: بشار وأبو العتاهية والسيد الحميري، وتحدث بشار عن نفسه فقال: «إنَّ لي اثني عشر ألف قصيدة. وظل شعر بشار متداولًا إلى عهد ابن خلكان، فقد جاء في كتابه «وفيات الأعيان» في الكلام على بشار: «وشعر بشار كثير سائر، فنقتصر منه على هذا القدر.


على أنَّ هذا الشعر قد ضاع أكثره، ولم يخلص إلينا إلا أقله، ولولا صاحب «الأغاني» وما دوَّن من أشعار بشار وأخباره لما وصل إلينا منها ما يستحق الذكر. وفي سنة «١٩٣٤» عثر محمد بدر الدين العلوي أحد معلمي اللغة العربية في الجامعة الإسلامية بعليكرة في الهند على مخطوط قديم في المكتبة الآصفية بحيدر آباد من كتاب «المختار من شعر بشار» للخالديين شاعري سيف الدولة وخازني دار كتبه، وشرحه لإسماعيل بن أحمد التجيبي من أدباء القرن الخامس للهجرة، فعني بنسخه وتصحيحه وطبعه، على أنَّ هذا «المختار» لا يشتمل على كثير من شعر بشار؛ لما فيه من المقارنات بين كلامه وكلام القدماء والمحدثين، وإنما فيه أبيات للشاعر لا توجد في غيره من الكتب. ونشر محمد الطاهر بن عاشور شيخ جامع الزيتونة الأعظم في تونس جزأين من شعر بشار عن مخطوطة في خزانة كتبه مرتبة أبياته على الحروف، وينتهي الجزء الأول بقافية «الباء»، والثاني بقافية «الدال»، وطبع الجزءان في مصر سنة «١٩٥٠ و١٩٥٤»، وينتظر أن يظهر الجزء الثالث؛ لأنَّ المخطوطة تشتمل على نصف الديوان كما يقول الناشر، وفيها معظم قافية «الراء»، وجمع ما وجده في كتب الأدب مما نسب إلى بشار ما يقارب ألف بيت.


وأما عدد أبيات المخطوطة فستة آلاف وستمائة وثمانية وعشرون بيتًا، باعتبار أبيات الرجز مشطورة. أتيح لبشار أن يملك الشعر من ناحيتيه؛ العبقرية والفن، فهو من حيث الأولى شاعر قوي الطبع، متوقد النفس، يدعو القوافي فتستكين إليه سلسة القياد، ومن حيث الثانية شاعر مرهف الإحساس بالجمال الفني، يتصرف في الألفاظ والتعابير، فيأتي بها طريفة دقيقة المدلول، مزدانة منتقاة. وسنحاول أن ندرس في هذا البحث خصائصه في مختلف الأنواع الشعرية على قدر ما تبيح لنا آثاره الباقية. لم يكن في أخلاق بشار وصفاته ما يحبب الناس إليه، فيصون لسانه عن ثلبهم وتشهيرهم، ولا بد لمثله أن يكون بغيضًا مقيتًا، وأن يكثر أعداؤه فيتناولوه بألسنتهم، وأن يقوم فيهم شعراء يقارضونه الهجاء. وغير عجيب أن يكون هذا الهجاء فاحشًا مقذعًا، فإنَّ أخلاق بشار لا تستنكره، وأخلاق عصره لا تتأباه، وقد ترك جرير والفرزدق من إقذاعهما إرثًا عظيمًا لمن جاء بعدهما من الشعراء؛ فأنفقوا منه عن سعة.



الدولتان الاموية والعباسية,البداوة مظاهرها وتجلياتها في شعر الحسين بن مطير الأسدي

Webكتب الشعراء من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية مجلد. اذا لم تجد ما تبحث عنه يمكنك استخدام كلمات أكثر دقة Webالشعراء من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية / حسين عطوان. المؤلفون: عطوان، حسين أحمد، رقم الطلب: ح ع ش الناشر: عمان، الأردن: مكتبة المحتسب ؛ بيروت دار الجيل، = تاريخ النشر: الوصف: نوع الوعاء: كتاب Webأدرك بشار بني أُمَيَّةَ وبني العباس؛ فهو من مخضرمي شعراء الدولتين، ويقول صاحب الأغاني: «إنَّه شُهِرَ في العصرين، ومدح وهجا، وأخذ سَنِيَّ الجوائز.» Webالشعراء من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية / حسين عطوان. Authors: عطوان، حسين أحمد، Subjects:: الشعر العربي العصر العباسي، aucsh. الشعر العربي العصر الأموي، aucsh. الشعراء العرب العصر Webفبشار عربي عجمي، من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، كثير التبرم بالناس لعماه، متلون في ولائه، يكره العرب ويحث الشعوب على كرههم، ويتعصب لهم أحيانًا ويتشيع للعلويين. كان الناس يزدرونه حتى يخرج عن طوره، ولولا خوفهم لسانه ما انفكوا عنه. شخصيته: ضخم مجدور طويل جاحظ العينين يغشاهما لحم أحمر، فكان أقبح الناس منظرًا وعمى، وفيه يقول حماد عجرد Webالشعراء من مخضرمى الدولتين الاموية و العباسية: Author: حسين عطوان: Publisher: دار الجيل للنشر والطباعة والتوزيع: Length: pages: Export Citation: BiBTeX EndNote RefMan ... read more



لا تغرك هذه الواو والنون، فالعرب قالوا هكذا، وابن زيدون من مواليد قرطبة وهو عربي أصيل من بني مخزوم، وُهِب مَلَكة شعرية رائعة فقال الشعر يقطر رواء وماوية. وكان إلى ذلك رقيق الطبع، ظريف النكتة، خفيف الظل، شديد السخر والاستهزاء، ماجنًا لا يبالي ما يقول وما يفعل، وقد يتزيَّا بزي الزهاد ليتوصل إلى فاحشة يرتكبها أو معصية يقترفها، وكان يؤثر المجاهرة بفجوره وسكره، ويكره التستر والمتسترين، وصراحته جعلته لا يحفل بأقوال الناس فيه، ولا يخجل من التحدث بتعهره. وأشهر هؤلاء أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس، ثم نظموا قواعد العلم شعرًا، وبعض الحوادث التاريخية، وقصروا عن المشاركة في الحِكَم التي تسير سير الأمثال. بشار في العصر الأموي أدرك بشار بني أُمَيَّةَ وبني العباس؛ فهو من مخضرمي شعراء الدولتين، ويقول صاحب الأغاني: «إنَّه شُهِرَ في العصرين، ومدح وهجا، وأخذ سَنِيَّ الجوائز. ليس في رثاء أبي نواس كبير غناء، فكأن نفسه في تطلبها السرور، ونفورها من الأشجان؛ أبت عليه أن يعرف الحزن الصحيح فيجيد الرثاء، ولم يكن له أسرة يهمه أمرها فيحزن إذا أصيب أحدها بمكروه. شاع هذا الفن في الصدر الأول للإسلام بين شعراء النبي وشعراء المشركين، ثم ازدهر في الصدر الثاني يوم كانت الأحزاب السياسية تتطاحن، وبنو أمية يصطنعون الشعراء للدفاع عن حقوقهم، ولكنه لم يلبث أن أخذ يتضاءل بعد قيام الدولة العباسية، واعتمادها على السيف في قهر أعدائها؛ فتفككت عُرَى الأحزاب، فتلاشى بعضها وضعف خطر الآخر منها، كالعَلَوِيِّين والخَوَارِج؛ لانقسامهم وكثرة ما نالهم من التقتيل. فبعد أن كان الشعر الإسلامي يصدر عن الطبع بلا تكلف، أصبح متحضرًا يسيطر عليه العقل، ويرده إلى ميدان الخيال الفسيح، وإذا عدا الشاعر ذلك عدوه منه تقصيرًا عن الإتقان الفني.



نظم الشعراء العباسيون شعرهم على شكل مقطوعات صغيرة تبعاً للتطور الحضاري الذي ميّز عصرهم. إنني من بني عقيل بن كعب. وقد سئل عن ذلك فقال: «لكلٍّ وجهٌ وموضعٌ، وهذا قلته في ربابة جاريتي، وأنا لا آكل البيض من السوق، وربابة لها عشر دجاجات وديك، فهي تجمع لي البيض، وهذا عندها أحسن من «قفا نبك» عندك. واتكاله على عفو الله جعله ينكر على النظَّام — شيخ المعتزلة — تشدده في أمر الغفران، ويرميه بالكفر والإزراء بالدين، فيقول:. Biblioteca mea Ajutor Căutare avansată de cărți. وهذا البيت يظهر لنا الشاعر كبير الذنب، ولكنه صادق الشعراء من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية pdf عقيدته، مخلص لإسلامه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة